سبحان مَن يدبّر أمر الخلائق والعباد في عليائه ، لا يشغله شأن عن شأن ، و لا تعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، قائم علي أمر كل شيء ، وكل شيء قائم به .. سبحانه وتعالي ، الرحمن الرحيم ، الحكيم اللطيف الخبير ، مصدر كل خير ، يسبغ علي عباده نعمه الظاهرة والباطنة ، منها مايعلمها العباد ، ومنها ما يخفي علي الكثير ، ولا يلحظها إلا أقل القليل .! و ما أكثر ما تغيب عنا حكمة الحكيم في قدره وأفعاله ، فتغرنا الظواهر ، وتشغلنا عن التأمل فيما تحمل في طياتها من الآيات والسرائر..! فكم من منح اغتر بها العباد ، واستُدرجوا بها من حيث لا يعلمون ، وكم من محن ضاق بها العباد ، فا نقلبت إلي منح وبركات ..! ولله درّ مَن قال : قد ينعم الله بالبلوي وإنْ عظمت ** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم .! • فقد يمرض الإنسان ، وتشتد عليه الآلام ، وتحيط به من كل مكان ، حتى يشفق عليه كل الأنام ، وما دروْا ما أعده له – مع صبره واحتسابه - اللطيف الخبير العلاّم من التكفير عن الخطايا والآثام ، حتى يلقاه في نعيم الجنان بعد ما وفاه أجره بغير حساب .! " .. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ " (الزمر, الآية :10) وجاء في الحديث : عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما يُصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) رواه البخاري برقم ( 5318 ) - واللفظ له - ، ومسلم برقم ( 2572 ) ، والبيهقى في " شعب الإيمان " برقم ( 9828) وفي حديث آخر ، عن النبي صلي الله عليه وسلم ، قال:(ما يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة) أخرجه الترمذي في سننه. • وقد يصح للإنسان بدنه ، ويُمد له في المال والجاه ، فينشغل بالنعمة ويُعرض عن ربه ومولاه ، ويقوده الغرور والطغيان ، حتي يلقي حتفه وهو سادر في الغي والنسيان ، ولا يري أمامه إلا البوار والخسران .! .. " كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى " (العلق , الآيات : 6- .. "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " (الحشر ,الآية: 19) "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" (المنافقون , الآية : 9) • وقد يخطف الموت شابا من بين يدي والديه ، فيحزنان عليه ، ويملآن الدنيا حسرة عليه ، بيد أن المدقّق فيما يخلف الله عليهما – إذا حمدا واسترجعا – خيرا منه في الدنيا والآخرة ، يجعله يري المحنة منحا وبركات ... ".. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ " (البقرة ، الآيات : 155-157) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مات ولد العبد قال الله عز وجل لملائكته : قبضتم ولد عبدي ، فيقولون نعم . فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون : نعم . فيقول ماذا قال عبدي ؟ فيقولون حمدك واسترجع . فيقول : ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة ، وسمّوه بيت الحمد " ) رواه الترمذي بسنده عن أبي سنان) وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنّة " هذه منح المصيبة علي الوالدين ، أما علي الناس : فكم من غافل تنبه ، وكم من نائم استيقظ ، وكم من لاه تذكّر ، وكم من ضال اهتدي ، وكم من شارد عاد ، وكم وكم .. من الأسرار واللطائف التي لا يحيط بهما إلا اللطيف علام الغيوب والسرائر ! والقياس علي ماسبق من أمثلة في ضروب الحياة - بسرائها وضرائها - لا يُعد ولا يُحصي ، والعبرة بأن تشغلنا البواطن فنتأمل فيما وراءها من حكم وأسرار ، ولا تلهينا الظواهر ونغترُّ بها فلا نري ما في باطنها من الدرر والجواهر . أما تري البحر تعلو فوقه جيف ** وتستقر بأقصي قاعه الدرر . ! تأمّل هذه القصة : ( كان لأحد الملوك وزير حكيم وكان الملك يقرّبه منه ويصطحبه معه في كل مكان ، وكان كلما أصاب الملك ما يكدره قال له الوزير "لعلّه خير" فيهدأ الملك. وفي إحدى المرات قطع أصبع الملك فقال الوزير "لعلّه خير" فغضب الملك غضباً شديداً وقال ما الخير في ذلك؟! وأمر بحبس الوزير . فقال الوزير الحكيم "لعلّه خير". ومكث الوزير فترة طويلة في السجن. وفي يوم خرج الملك للصيد وابتعد عن الحرّاس ليتعقب فريسته ، فمرّ على قوم يعبدون صنما فقبضوا عليه ليقدموه قرباناً للصنم ، ولكنهم تركوه بعد أن اكتشفوا أن قربانهم أصبعه مقطوع .. فانطلق الملك فرحاً بعد أن أنقذه الله من الذبح تحت قدم تمثال لا ينفع ولا يضر ، وأول ما أمر به فور وصوله القصر أن أمر الحرّاس أن يأتوا بوزيره من السجن واعتذر له عما صنعه معه ، وقال أنه أدرك الآن الخير في قطع أصبعه ، وحمد الله تعالى على ذلك. ولكنه سأله : عندما أمرت بسجنك قلت "لعلّه خير" فما الخير في ذلك؟ فأجابه الوزير أنه لو لم يسجنْه لَصاحَبَه فى الصيد ، فكان سيُقدَّم قرباناً بدلاً من الملك ، فكان في صنع الله كل الخير.!! ) ولعلّ ما تتجرّعه أمتنا – لحظة بعد الأخري - من السموم النّاقعات ، دواء لها ، يُوقظها من سباتها ، ويُصحّح مسارها ، ويجمع شتاتها ، ويعيدها إلي سالف عزّها وعظيم مجدها..! جعلنا الله من أولي الأبصار الذين لا تشغلهم الظواهر عن التأمل في بواطن الأمور ، ومكامن الأسرار ! ---------- باحث وكاتب في الفكر الإسلامي