علقت امرأة مصرية على مقال كتبته أحذر فيه مِن المؤامرات التى تحاك ضد مصر؛ لإفشال مشروع نهضتها وأدعو فيه المخلصين من أبناء مصر لليقظة والتنبه لمخططات العدو، فقالت تلك المرأة فى تعليقها: "أنت مالك ومال مصر والمصريين؟؟". هذه المرأة تنطلق فى اعتراضها على ما اعتبرته تدخلاً منى كفلسطينى فى شأن مصرى خالص من المثل الشهير "أهل مكة أدرى بشعابها".. فأهل مصر وحدهم الذين يحق لهم الحديث فى الشأن المصرى، وأهل سوريا يتحدثون فى الشأن السورى، وأهل فلسطين ليس لهم إلا أن يتحدثوا فى الشأن الفلسطينى وحده، وكذلك أهل جزر الواق واق وحدهم الذين يحق لهم الحديث فى شئونهم الواقواقية، وليس لغيرهم أى حق بأن يتدخل ولو بكلمة، حتى لو أبيدت الواق واق عن بكرة أبيها فما لنا ولهم؟؟.. طريقة التفكير هذه هى بلا شك من رواسب ثقافة "سايكس بيكو"، التى عززت عوامل الفرقة بين الأمة الواحدة وأعلت من قيمة الدولة القطرية على حساب الكيان الوحدوى الجامع، ودفعت كل قوم للاستغراق فى شئونهم الخاصة على حساب الاهتمام بالشئون المشتركة مع شركاء الجغرافيا والتاريخ والقومية والدين والمصير من الشعوب العربية والمسلمة الأخرى.. ومن المؤسف أن ثقافة "سايكس بيكو" هذه طالت حتى النخبة التى يعول عليها فى النهوض بواقع الأمة، فوقع المثقفون فى هذا الداء بدل أن ينتشلوا الأمة منه، فوجدنا كتَّاباً فلسطينيين مثلاً يقصرون اهتماماهم على الشأن الفلسطينى وحده، وكتَّابًا مصريين لا يفقهون خارج حدود مصر شيئاً، وكتَّابًا مغاربة لا تستفزه للكتابة كل الأحداث الساخنة التى تشهدها الأمة إلا ما يخص مجتمعه ووطنه الصغير، وهكذا.. بل تسللت هذه الثقافة الدخيلة حتى إلى مساجدنا، التى أذن الله أن ترفع لتكون عنواناً لوحدة الأمة فتجد أئمة المساجد وخطباءها يقصرون اهتماماهم على الشئون المحلية ولا يبالون بمصائب الأمة، فتجد مئات الشهداء مثلاً فى سوريا فى يوم واحد والإمام فى بلد آخر يتضرع إلى الله بأن يحفظ بلده، مع أن نزف الدم المتواصل فى سوريا هو أكثر إلحاحاً من الدعاء لبلده المستقر نسبياً.. هذا الواقع هو واقع غير شرعى لا يسر إلا أعداءنا، وفى ظل نهضة الشعوب لا بد من التمرد عليه، ولا بد من استحضار القضايا المشتركة بين مختلف الشعوب العربية والمسلمة، وكما أسقطت الشعوب العربية أنظمتها فلا بد أن تسقط كل مخلفات هذه الأنظمة والجذور التى أنبتتها، ومن هذه الجذور ثقافة "سايكس بيكو" التى غذت عوامل الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة. حين ندعو إلى تجاوز الحدود القطرية وإلى التركيز على القضايا المشتركة بين أبناء الأمة الواحدة فإن دعوتنا هى دعوة مبدئية لا تخضع لحسابات المصالح بمفهومها الضيق، لكن حتى بمفهوم المصلحة السياسية فإن كل خطوة باتجاه تعزيز قواسم الوحدة بين الشعوب العربية ستعود بالنفع والرخاء والنهضة على كافة الشعوب العربية.. إذا كان المثل القائل بأن أهل مكة أدرى بشعابها صالحاً للتطبيق فى زمن قريش فإنه لم يعد صالحاً فى زمن الفضاءات المفتوحة الذى تحطمت فيه الحدود والحواجز وصار بإمكان من فى مشرق الأرض أن يحيط علماً بما يحدث فى مغربها ربما أكثر مما يعلمه من يسكن فى البلد ذاته، وصار حق الحديث فى شأن أحد البلدان راجعًا إلى مدى اهتمام المتحدث بذلك الشأن وإطلاعه عليه وليس إلى انتسابه إلى ذلك البلد أو عدم انتسابه، أى أنه فرق تخصصى وحسب. لقد كسر التطور البشرى احتكار كل قوم لشئونهم المحلية بعد أن صارت هذه الشئون المحلية تجرى تحت سمع العالم وبصره فصار من حق البشرية الاهتمام بها، وهى تراها أمامها وهى تعلم أنها ستمسها بشكل مباشر أو غير مباشر فى حياتها الاقتصادية والأمنية والسياسية، وبذلك يمضى العالم قُدماً نحو إعلاء قيمة العالمية، بينما تتحطم حدود الجغرافيا وتتراجع الدولة القطرية الضيقة.. فهل نسير فى اتجاه التاريخ أم فى الاتجاه المعاكس؟ [email protected]