عندما قرر مجلس النواب فجأة الموافقة نهائيا على قانون السلطة القضائية الجديد ، رغم إجماع القضاة بجميع هيئاتهم على رفضه وإجماعهم على أنه عدوان على استقلال القضاء ، كانت أنظار القضاة تتوجه إلى رئيس الجمهورية ، وأعلنوا أنهم سيتوجهون إليه لعرض الأزمة عليه لكي يعيد القانون إلى البرلمان من جديد ، وكان القضاة ينتظرون العرف والعادة الرصينة التي تتخذها القيادة المسئولة بدعوة رموز الهيئات القضائية إلى رئاسة الجمهورية للحوار ومناقشة الأمر أو على الأقل تطييب الخواطر ، كما يفعل مع لاعبي الكرة والفنانين والإعلاميين والفتاة اليزيدية العراقية ، وبينما الجميع ينتظرون عودة الرئيس من الإسماعيلية حيث كان في حوار متصل مع الشباب حول قضايا الوطن الكبيرة مثل البطالة والانهيار الاقتصادي والإرهاب والدولة التي تتعرض للخطر ، إذا بالجريدة الرسمية تنشر في وقت متأخر من الليل تصديق رئيس الجمهورية على القانون ليصبح نافذا ، وهو أسرع تصديق رئاسي على قانون منذ سنوات طويلة ، وكان هذا الموقف الصارم والعصبي والأسطوري في استعجاله يكشف للجميع أن هذا القانون تحديدا هو قانون الرئيس السيسي شخصيا ، وأنه كان يتلهف على لحظة خروجه من البرلمان لاعتماده فورا . يحار الناس في فهم توجهات الرئيس ، ويضربون كفا بكف من غرابتها ، فالرئيس يعلن في الإسماعيلية أول أمس أن قضيته الأولى هو الحفاظ على الدولة من الضياع ، ثم هو في اليوم التالي مباشرة يقدم على خطوة يضرب فيها الدولة في جذرها وعمود خيمتها ، القضاء ، إلا إذا كان السيسي يتصور أن الدولة هي رئيس الجمهورية ، والباقي ديكورات ، وهذا مستبعد ، فكيف يستقيم أن يتكلم الرئيس عن أن أولويته حماية الدولة ثم هو يضرب عمود خيمة الدولة ، القضاء ، في مقتل ، ثم يحار الناس مرة أخرى ، ما هي تلك الأولوية الخطيرة التي تجعل رئيسا يواجه انهيارا اقتصاديا وفشلا أمنيا وإرهابا مروعا يستنزفه جيشه وشرطته يوميا وانقساما وطنيا حادا وتوترات سياسية مفتوحة على المجهول ، يقدم رغم كل ذلك على خطوة يستعدي فيها أهم أدوات الدولة في مواجهة الإرهاب ودعم الاستقرار وحماية النظام العام والقانون ، ما هي تلك الأولوية الخطيرة التي تجعله يسرع بصدام هائل مع الجماعة القضائية بكل أفرعها لكي يفرض عليهم قانونا يتيح له أن يعين باختياره هو رؤساء كل الهيئات القضائية ، بدلا من أن يتم الاختيار من داخل الهيئة القضائية ذاتها وفق قاعدة حيادية بعيدة عن أي انتماءات أو أهواء ، الأقدمية لنواب رؤساء تلك الهيئات ، بما يحمي استقلاليتها ومصداقيتها . كم تساوي في سمعة نظام حكم وفي سمعة رئيس الجمهورية أن يقول رئيس نادي قضاة مجلس الدولة أن رغبة السلطة في التخلي عن أرض مصر في جزيرتي تيران وصنافير هي السبب وراء قانون السلطة القضائية الجديد ، كم تساوي تلك العبارة ، وكيف يمكن لرئيس الجمهورية أن يرد على نائب رئيس مجلس الدولة الذي قال له أن الناس تختصمك عندنا ، فكيف تختار أنت القاضي الذي يحكم في الخصومة بينك وبينهم ، وأنت الذي اخترته ، كيف يثق الناس في حكمنا وفي عدل وعدالة ، وماذا عساه يتكلم السيسي بعد ذلك عندما يواجهه بعضهم خارج مصر بمظالم وقعت على نشطاء أو شخصيات عامة في أحكام قضائية ، وقد كان يفلت بالعبارة الشهيرة : القضاء في مصر مستقل ولا أتدخل في شئونه ، ماذا عساه يقول الآن ، وقد أثبت للجميع أن القضاء لم يعد مستقلا ، وأنه يتدخل في شئونه ، بل هو الذي يختار ويعين رؤساء الهيئات القضائية . ما حدث من تمرير هذا القانون المروع وسيء النية والسمعة ، يمثل إعادة اعتبار صريحة للرئيس الأسبق محمد مرسي ، فقد قامت عليه الدنيا ولم تقعد لأنه أراد تغيير النائب العام فقط ، واعتبر البعض عهده بذلك رمزا للعدوان على القضاء ، وما حدث الآن أسوأ بكثير مما فعله مرسي ، كما أن الأمور قد تتفاقم إذا لجأ القضاة إلى تدويل قضيتهم عبر المجامع القضائية الدولية المختصة ، وبذلك تدخل مصر في صدام دولي آخر لم يكن له أي مبرر ولا معنى ، سوى شهوة التحكم والسيطرة على كل مؤسسات الدولة وإلغاء استقلال السلطات وسحق فكرة الفصل بينها ، لتصبح سلطة واحدة سيدة الجميع والباقي عبيد يسمعون ويطيعون ويتلقون الأوامر لتنفيذها . بأمانة شديدة أتساءل : من العاقل الذي نصح السيسي بتلك الخطوة ، من الذي صور له إدارة الدولة بتلك البساطة ، من الذي جعله يقدم على قرارات تمثل خدمات مجانية لكل خصومه ، من الذي أقنعه بأن يحفر المزيد من الحفر في طريقه ، غير مكتف بكل تلك المصائب التي يعاني منها نظامه . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1