منذ ذلك الحين الذى أمر فيه الله آدم وامرأته أن يهبطا من الجنة وإلى يومنا هذا، وحلم العودة إلى الجنة لم يبارح مخيلة الإنسان ولم يفارق ذكاءه، وإن تنوعت وتعددت أساليب البشر فى استعادة الجنة المفقودة، فمنهم من سعى أن يصنع بنفسه جنته الخاصة، ومنهم من اتخذ التوبة إلى الرحمن سبيلاً للعودة إلى الجنة، وما الأديان فى جملتها إلا طرق متعددة للعودة إلى الله والعودة إلى الجنة . وفى نظرى، إن الحلقة المفقودة من الإنسان الساعى إلى العودة إلى الله هى فهمه لما هو الإيمان بالله، فالإيمان فعل نسبى يقوم به الإنسان، فالإنسان هو الذى يؤمن أو لا يؤمن، حتى وإن كان الذى يؤمن به هو الله، هو المطلق ومن ثم فإن أدوات تفعيل الإيمان تكمن فى كيان الإنسان حتى وإن كان الإيمان هداية من الله . ومن ثم فإن الإيمان فعل إرادى، والإرادة لا تقوم بدون الحرية، والحرية لا وجود لها دون أن تبدأ من حرية العقل.. فالإيمان إذن يبدأ من حرية العقل، ومن عقل حر، وبهذا نكون قد وضعنا يدنا على بداية الطريق الصحيح للإيمان، ونجحنا فى أن نشخص بيت الداء فى سلوكيات البشر الإيمانية. إن بداية الخلل هى فى فصل الإيمان عن العقل واعتبار الإيمان أمر متصادم معه أو اعتبار الإيمان شىء لا يعقله العقل، ومن هنا أمكن تطويع الإيمان لطغيان الإنسان وتسلطه على أخيه الإنسان باسم الإيمان اللامعقول والذى يفرض فرضاً على الإنسان بالقهر أو بالسلطان، ومن هنا أيضاً أمكن تحويل الإيمان ليصبح نوعاً من تغييب العقل بدلاً من كونه هبة الله لعقل الإنسان. فالإيمان إذن هو طريق الإنسان إلى الله، ولكن الإنسان شوه الإيمان بأن أفقده معقوليته التى تكسب الإيمان أساسه الصحيح، وبأن منع عقله من أن يسبح فى حرية الإيمان، وبهذا فقد الإنسان طريقه إلى الله وإلى الجنة، وصار الإيمان وجنته نوعًا من أنواع الاستثمار أو التجارة، مما فتح الباب لاستغلاله وتعريضه للخسارة كما للربح. الشاهد على هذا هو أن ما كان يروج له البعض بالأمس باعتباره طريقاً إلى الجنة أصبح هو بعينه اليوم طريقًا إلى النار.. نار الحسرة والأسف على خيبة الأمل.. لقد بدأ كثير من الناس يدركون أن ربط التصويت على التعديلات الدستورية بقضية الحرام والحلال والجنة والنار كان خطأ وزجاً بقضية الإيمان فى موضوع يرتبط بالمصالح المتغيرة للبشر.. وأدرك البسطاء من الناس بفطرتهم السليمة أنه ما كان يجوز الزج بالدين فى موضوع هو من صميم السياسة المتغيرة، وبدأوا يدركون شيئًا فشيئاً، خطورة الخلط بين الدين والصراع على السلطة. إن السرعة التى أدرك بها الناس ذلك أمر مبشر فى ظل أوضاع عامة تدفع الكثيرين إلى اليأس ولا تبعث على الأمل، وبقى أن يدرك الناس أن كل هذا حدث لأنهم باعوا عقولهم وتنازلوا عن حكمتهم وتنكروا لقواعد العلم والتحليل المنطقى والذكى لما يقال لهم، متوهمين بحسن نية وسلامة طوية، أنهم بذلك يكرمون الله وأنهم يعلون من قيمة الإيمان.. ولكن سرعان ما أدركوا واكتشفوا أن ما بيع لها ما كان إلا وهماً ونشوة زعامية، ورغبة فى الوصول إلى السلطة على حطام الجماجم والعقول معاً. على أن العقل الإنسانى الذى امتهن بخداعات المستثمرين يأبى أن يستكين ويهزم، ويتحدى مثبتاً ومبرهناً مع الأيام والأحداث أنه أذكى من الخداع وأقوى من التغييب، ومن ثم، فإن الوقت لم يطل به حتى كشف للعقول المغيبة أنها خدعت وأن العقل لا يمكن تغييبه أو استبداله بالوهم أو الخداع . ضرب آخر من ضروب تغييب عقول البشر باسم الإيمان هو ما نلاحظه فى الآونة الأخيرة فى مصر من محاربة للفن والإبداع بدعوى الدفاع عن الإيمان وإطلاق اتهامات ازدراء الدين أو الأديان بمنتهى السهولة على بعض الفنانين والمبدعين، مثلما حدث مع الفنان عادل إمام ومع عدد آخر من المبدعين الشبان الأقل صيتاً وشهرة فى مجالات شتى.. القضية هنا أن البعض يخلط بين انتقاد سلوكيات معينة للبشر فى ممارستهم للإيمان بالإيمان ذاته. لقد شاهدت بعض أعمال الفنان عادل إمام، ولم ألاحظ فيما شاهدت أن عادل قدم نقداً أو إساءة للذات الإلهية أو لأى دين من الأديان، ولكننى لاحظت مع غيرى أنه قدم نقداً لاذعاً لسلوك بشرى فى طريقة الإيمان، وأن إعمال النقد لما هو بشرى لم يوجه أى إساءة لما هو إلهى.. أما أن يتم الخلط بين ما هو بشرى وما هو إلهى وأن يوجه إليه الاتهام بأنه أساء للإيمان، حينما انتقد سلوك الإنسان، فهذا هو الازدراء الحقيقى للإيمان والحرية والإنسان . ربما لا أكون قد رأيت كل أعماله التى وجه بسببها الاتهام، وأن غيرى يملك من الدليل الحسى والأقوال المسجلة على الشاشة ما يثبت وما يبرهن على أن الفنان قد نطق بما يسىء للإيمان ومن هنا ستكون البينة على من ادعى، ومن هنا، فلابد أن تتضمن صحيفة الدعوة، وكذلك منطوق الحكم وبدقة وبحصر اللفظ، تلك العبارات التى أساء بها عادل إمام للدين، أما إذا لم يتوفر هذا الدليل الحسى فسنكون أمام كارثة إذا سكت عليها أصحاب العقول . أن يصبح الكذب أمراً مباحاً لا يعاقب عليه الضمير العام للأمة، قبل أن يعاقب بالقانون، وأن يفلت من يكذب بغنيمته دون أن يجد من يوقفه أو يمنعه فى الاستمرار فى الكذب أو استمراء الغنيمة، فإن هذا نذير فشل وإحباط وخيبة أمل بلا حدود.. وإذا لم يقم أصحاب الضمائر الحية بمواجهة الكاذبين، فإن الكذب نفسه يأبى إلا أن يكشف عن نفسه بنفسه وأنه بنى على غير أساس، وما بنى على غير أساس فلا بد له من السقوط والانهيار ولابد أن يكون سقوطه عظيماً وانهياره سهلاً وسريعاً. إن المشاهد المؤسفة لما حدث فى ميدان العباسية على مدى أسبوع والتى بلغت ذروتها فى أحداث الجمعة الماضية، وما أثارته من انقسام فى الصفوف وفرقة بين الناس، بل داخل المعسكر الواحد، تستدعى وقفة من الجميع.. فالوقت أكثر مناسبة من أى وقت مضى لاستفاقة العقول، بل إلى ثورة عقول من أجل بناء أمة قوية ودولة راسخة المؤسسات ومجتمع ديمقراطى متحضر وشعب صالح يعلى من قيمة الإيمان ويعبد الله بقلب صالح ويحترم ويطيع وصاياه. إن الإيمان لا يقوم فى أمة مقهورة، قد يكون هناك مؤمنون وقد تكون هناك مظاهر للتدين خوفاً ورهبة، لكنه إيمان هش ومزعزع لم يوضع أمام اختبار الحرية، وسرعان ما يضيع إذا انهارت الكوابح التى يضعها المجتمع أو تضعها السلطة ظناً منهما أنها تحفظ الإيمان. إن الإيمان الحقيقى هو الإيمان الذى يختبر بشكل دائم فى مناخ تسوده حرية العقل وحرية الفكر وحرية النقد. أرجو ألا يضيع شعبنا ونخبتهم هذه الفرصة الثمينة ويعيد كل فريق التفكير فيما قدم طوال العام الماضى كى لا يبكون ملكاً لم يتمكنوا من صونه، وهنا أتذكر كلمات قالتها أم أبو عبد الله محمد الحادى عشر - آخر ملوك الأندلس لابنها الملك وقد بكى عندما غادر القصر مع عائلته إلى المنفى: "لا تبك كالنساء ملكاً لم تصنه كالرجال". علينا إذن أن نصون كالرجال مجداً صنعه جيل صاعد من الشباب، من مختلف الفئات والتوجهات، هب ثائراً من أجل كرامته وحريته، شباب اختار أن يقاتل من أجل حقوقه وحريته على أرض وطنه على الفرار بحثاً عن وطن آخر لن يجده.. شباب رأى شعوبًا صنعت جنتها على أراضيها، فقرر أن يصنع أيضاً جنته على أرض وطنه ورأى فى ذلك تحقيقاً للرسالة التى خلق الله الإنسان من أجلها، ألا وهى خلافته عز وجل فى الأرض بعمرانها. وعلينا كأجيال تستعد لتسليم رايات المستقبل لأجيال جديدة صاعدة أن نأخذ بيدهم وندعمهم ونشجعهم ونزيل من نفوسهم الخوف الذى أثقل كاهلنا وأعجزنا عن الفعل، بدلاً من أن نناصبهم العداء، ونعترف لهم ومعهم بأن المجد فى الحرية والشجاعة بدلاً من أن نلقنهم درساً هجرته الشعوب التى تقدمت من زمن منذ أن ودعت الخوف. رئيس أساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]