مع أنه من المعروف أن الفيلسوف الألماني الشهير "فريدريك نيتشه" هو فيلسوف الإلحاد والتشاؤم الذي أطلق عبارته الشهيرة "موت الإله"، وحطم الدين المسيحي-الأوروبي. [عبارته الشهيرة موت الله لها تفسيرها الذي يغاير ما يفهم البعض عنها وليس هذا محل بيانه] فإنَّ في عباراته عن الإسلام لطيفة. ففي عبارة له يتمنى فيها أن يعيش بين المسلمين بل بين السلف الصالح، لماذا؟ بحسب قوله؛ لأجل أن يُعيد تنظيف وشحذ ملكة النقد الصحيح المبني على الرؤية والبصيرة والتي تمكنه من تقييم الحضارة الغربية بميزانٍ قائمٍ على الهدى والنور. “I want to live among Muslims for a good long time, especially where their faith is most devout: in this way I expect to hone my appraisement and my eye for all that is European”. (Friedrich Nietzsche, 13 March 1881) ترجمتها: "أريد أعيش بين المسلمين وقتًا طويلاً، وعلى وجه الخصوص حينما يكون إيمانهم خالصًا وتقيًا، بهذه الطريقة أتوقع أن أشحذ قدرة تقييمي وبصيرتي لكل شيء هو أوروبي". فريدريك نيتشه كان ذلك الكلام السابق من نيتشه في 13 March 1881، ثم إنه في آخر كتبه وهو كتاب: Thus Spake Zarathustra "هكذا تكلم زرادشت" يتحدث بلغة عجيبة عن الغرب وعن أوروبا. نيتشه يشن من صميم قلبه حملة جذريَّة على الحضارة الغربية وأهلها، فيصفهما بأشنع الأوصاف وأقذعها، ثم يبدأ حديثًا كله عطر بمديح الصحراء وأهلها وبناتها وعلى "غادتين"، يتحدث عن الصحراء حديث إنسان يتطلع منها معجزة تنقذ الإنسانية، ثم يكرر بشكل غريب وملفت للنظر نداء (حيّ على الصلاة) ونداءا آخر (توكلت على الله) فما هي هذه المفارقة عند فيلسوف أشتهر بالإلحاد؟ يقول نيتشه: "هنا المدينة العظمى، وهل لك أن تظفر منها بشيء؟ إن عليك أن تفقد فيها الكثير ... هنا جحيم الأفكار، كل فكرة فريدة، هنا تصهر الأفكار السامية، حتى تصبح مزيجا مائعا، هنا تتهرأ كل عاطفة شريفة، ولا يسمح إلا للعواطف الجافة بأن تعلن نفسها... ألا بلغت أنفك رائحة المجازر، حيث تنحر الأفكار، ومطاعم السوقة، حيث تباع بأبخس الأثمان؟ أفما ترى أبخرة العقول المضحاة تتصاعد منتشرة كالدخان فوق المدينة؟ ألا تلوح لك الأرواح وهي معلقة معروضة، كأنها خرق قذرة بالية؟ إذا هي تنقلب صحفا تنشر بين الناس؟ ألا تسمع البيان الكلي يستميل هنا إلى تلاعب ألفاظ وسخائف تغض بها جداول الصحف، فإذا هي مصارف أقذار؟ إن بعضهم يتحدى البعض ولا يعلمون على أي شيء يختلفون، يأخذ بهم الغيظ كل مأخذ، وقد غاب عنهم سببه، فلا يسمعون إلا صفصفى قلوبهم ، ورنين دنانيرهم!". ويقول نيتشه: "هنا مقام جميع الرذائل والشهوات، وهنا أيضا فضائل عديدة لها مهاراتها، ولها مشاغلها، ولتلك الفضائل الجمة أنامل للكتابة، وأرداف من رصاص...استحلفك بكل ما فيك من قوة ونور وصلاح أن تتفل - تبصق - على هذه المدينة، مدينة بائعي السلع، ثم تكر راجعا إلى الوراء. إن الذي يجري في عروق المدينة إنما هو دم فاسد فأبصق على المدينة الكبرى، لأنها مزبلة تتراكم فيها الأقذار. أبصق على مدينة النفوس الضعيفة، والصدور الضيقة، مدينة العيون الحاسدة، والأنامل اللزجة، مدينة الوقحين والفجار والمعربدين، والطامعين البائسين. المدينة التي يتكدس فيها من يأكلهم سوس الفساد، من أهل الشهوات المتآمرين، أبصق على هذه المدينة، وعد أدراجك... لقد كرهت هذا المدنية العظمى أنا أيضا" . يأس نيتشه من المدينة العظمى! ثم يقول نيتشه عن المدنيَّة الغربية: "ليس في هذه المدينة من يقبل إصلاحا، بل زيادة فسادا، ويل لهذه المدينة، ليت تجتاحها أعاصير النار، فتذرها رمادا، إذ لا بد من انطلاق مثل هذه الأعاصير منذرة بالظهيرة الكبرى، ولكن انطلاقها مرهون بزمانها ومقدرتها. الويل، الويل لقد ساءت الحال، يا للانحطاط، إن العالم لم يسقط إلى مثل هذه الدركة قبل الآن، لقد استحالت روما إلى عاهرة وتدنى قيصرها إلى مرتبة الحيوان!". ثم يلتفت نيتشه إلى جهة الصحراء ليهبها حبه ومديحه! يقول نيتشه: "ذلك زمان عشقت في الصحراء غادتي الشرق .. فهناك سماء غير هذه السماء، لا تتلبد فيها الغيوم، ولا تعكر أديمها الأفكار... إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطمع إلى الاستيلاء عليها. يا للمهابة !! يا لبداية تليق بمهابة الصحراء، تليق بأسد أو بنذير يهيب بالناس إلى مكارم الأخلاق، إنها لروعة، لم تسلط عليكما يا صديقتي عندما أتيح لي أنا ابن أوروبا أن أجلس عند أقدامكما تحت ظلال النخيل وأنادي .. حيّ على الصلاة. يا للعجب، أراني راكعا أمام الصحراء، ولكني عنها جد بعيد، لم تبتلعني الواحات الصغيرة، بل انفرجت أمامي، كأطيب الثغور نكهة، فارتميت فيها، وها أنا ذا عند أقدامكما يا صديقتي العزيزتين .. فحيّ على الصلاة . أنني أمجد تلك اللوحة، فأنا قادم من أوروبا، أشد العرائس جحودا" . نيتشه يرفع الأذان ثم يحذر بنات الصحراء من أخلاق المدينة العظيمة! ويقول أيًضا: "حيّ على الصلاة أرتفع يا مظهر الجلال، ولتهب مرة أخرى نسمة الفضيلة، وليت أسد الفضائل، يزأر أيضا أمام غادات الصحراء، ، فزئير الفضيلة يا بنات الصحراء أقوى ما ينبه أوروبا ويحفز بها إلى النهوض، ها أنا ذا ابن أوروبا لا يسعني إلا الخشوع والانتباه لدوي الآيات البينات وقد توكلت على الله".