لا أحد ينكر أن الإعلام يشكل أداة ذات تأثير عميق فى بناء الشخصية وتكوين دوافعها وتوجهاتها، ورسم صورة ذهنية معينة وترسيخها فى الأذهان، منعكسًا على أنماط السلوك لدى مستقبل الرسالة الإعلامية، ومن ثم على المجتمع ككل، وهو ما دعا المفكر الأمريكى بريجينسكى، لأن يقول إن التليفزيون يقوم بدور أهم من المدرسة والكنيسة والجيوش. ولابد لنا أن نعترف أن الإعلام الحالى يسهم بشكل أو بآخر فى خلق وعى زائف لدى الإنسان ويعمل على إعاقة نموّه الفكرى وإحساسه بعمقه وامتداده الحضارى، ويمارس اعتداءً منظماً على منظومة الأخلاق والقيم، بل أصبح متهماً بمساهمته الكبيرة فى نشر الجرائم الأخلاقية داخل المجتمع، حتى قيل إذا كان السجن هو المدرسة الابتدائية للجريمة فإن التليفزيون هو جامعتها. بل ويطرح المفكر الفرنسى بيير بورديو Pierre Bourdieu فى كتابه "التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول" دور التليفزيون فى تسطيح الأفكار وتزييف الوعى وتغييبه، مهاجمًا المثقفين المشاركين فى تلك المؤامرة مدفوعين بإغراء الشهرة والمال واصفاً إياهم بأنهم "كلاب الحراسة الجدد لوسائل الإعلام" كذلك فالإعلانات التجارية بما تقدمه من مادة هابطة تحولت إلى أدوات هدم اجتماعى فهى لا تلتزم بأى ضوابط أخلاقية، ولا تراعى أى قيم مجتمعية، ناهيك عما تقدمه البرامج والأعمال الدرامية، فالإعلام الحالى أصبح يعانى مرضًا يمكن أن نطلق عليه "متلازمة انفلات ما بعد الثورة"، إذ أصبح مقترنًا بالانفلات على المستويات الأمنية والسياسية والأخلاقية. وعلى الجانب الآخر، يجب أن يستقر فى وعينا أن لدينا تحديًا إعلاميًا صهيونيًا ربما لم يشتد سعاره فى الفترة الأولى من الثورة نظرًا لمباغتة الثورة له، إلا أننى أتصور أنه سيقوى بمرور الوقت، بعد أن أدرك قيمة اللحظة وأنها تمثل تهديدًا لسطوته وبالتالى للهيمنة الأمريكية ذاتها. ونحن هنا لا نريد مجرد صد الهجمة الإعلامية على الشرق المدعومة بالإعلام الصهيونى، فنستهلك كل قوانا فى الدفاع عن أنفسنا، بل إطلاق حملة كبرى تبشر بحضارة جديدة ورؤية مغايرة. فنحن فى مفترق طرق وعلى أعتاب حضارة إنسانية جديدة آخذة فى التشكل وملامحها آخذة فى التبلور ونظام عالمى قديم يتداعى، فإذا أردنا أن نضع لنا قدمًا على خريطة الإعلام العالمى، وألا نقبع كثيراً فى المنطقة المعتمة من العالم، فعلينا أن نقدم مشروعاً حضارياً يُحشد له إعلاميًا ينقذ العالم من كبوته، مشروع يدعو إلى تحقيق السلام العالمى وطرح نموذج روحى وأخلاقى فى مواجهة النموذج المادى السائد، ويعالج القضايا برؤية علمية واقعية تواكب المتغيرات على الساحة الدولية. إن ما يعزز الأمل لدينا هو أن العالم فى لحظته الراهنة يريد أن يرى الشرق بعيون مصرية، وأن يعرف الإسلام فى وسطيته بمرجعية أزهرية حملت تراثًا كبيرًا من التسامح الدينى، ثم إنه يريد أن يرى كيف امتزجت الثورة وهى فعل حداثى بالحضارة وهى ضاربة فى عمق التاريخ الإنسانى وأى منتج جديد سوف ينبثق عن هذا الامتزاج الرائع. من هنا يأتى دور الإعلام إعلام ما بعد الثورة فى تقديم رسالة أكثر أخلاقية معتمداً على الحرية المقترنة بالمسئولية، إلا أنه ليس كالإعلام الحكومى فى النظم الشمولية والذى يأخذ توجهاً رأسياً "من أعلى إلى أسفل"، وغير قابل للنقاش وهو ما يطلق عليه الإعلام الأبوى، إذ يعتقد أن جمهوره طفلاً لا يدرى مصلحته.. وللحديث بقية بإذن الله.