من خلال متابعتك للسياسة الإيرانية داخلياً وخارجياً، هل تستطيع التنبؤ بسلوك إيران تجاه مختلف القضايا؟ وهل بدأت الاستجابة لمفكرى السياسة الأمريكية فى ضرورة فهم واحتواء إيران؟ كانت إيران معزولة سياسيًا وإقليميًا عن العالم، ولكن يبدو أن هذه العزلة أفادتها كثيرًا، فقد دفعت بتسريع برنامجها النووى بعيداً عن الأعين، والتفات العالم لتداعيات الربيع العربى الذى فاجأ الجميع! وتأتى مباحثات إسطنبول مع مجموعة (1+5)، لتفك هذه العزلة ولتدفع إيران نحو تبلور عمل إقليمى كبير، نتيجة أو ثمنًا لما تنازلت عنه للمجموعة! هل بدأ الانفتاح الإيرانى على الغرب، كيف؟ وما هى الأضرار الناتجة عن تحول إيران نحو الغرب على العرب بصورة عامة والخليج بصورة خاصة؟! و كيف ستكون العلاقة بين الأتراك و الأمريكان والإيرانيين مستقبلاً كنتيجة من نتائج الحوار والإقبال على الغرب؟ ثم أين تقع إسرائيل من هذا التحول وهى المحتضنة من قبل الأمريكان و المولود الشرعى للأوروبيين؟ وما هى الأوراق التى قدمتها إيران لهذه الدول والثمن الحقيقى؟ ثم إزاء هذا الواقع المتغير غير الثابت، هل هناك معادلة ثابتة نتعامل من خلالها مع الوضع الإقليمى والدولى فى ظل الربيع العربى و التحولات الكبرى فى المنظومة العربية؟ أم أن القطار قد فات وإيران ذهبت بالعنب والناطور؟! و أخيرًا ما هو دور الخليجيين فى ظل هذه المتغيرات؟ و الأهم ما هو دور الشعوب فى ظل هذه المتغيرات؟ وكيف ينبغى أن تتعامل معه؟! أسئلة لا بد من الإجابة عليها بكل صراحة لأنها ستوضح الواقع الذى ينبغى العمل عليه بعد هذا اليوم، وبدون معرفة هذا الواقع لا يمكن التنبؤ بالفعل السياسى القادم. إطلالة على الواقع الإيرانى: بعد تولى الإصلاحيين فى الفترة الخاتمية وقبلها الهاشمية الرفسنجانية، طغى تحول كبير جدًا على السياسة الإيرانية، فبدأ القول بضرورة الانفتاح على أمريكا وتحسين العلاقة مع السعودية ودول الخليج الأخرى، وفعلاً بدأت محاولات كبيرة فى هذا الصدد، ولكن الجانب المتشدد الإيرانى عرقل هذه القضايا، ورفض الجانب الأمريكى احتواء إيران أو التعامل معها بصدق، كما ذكر ذلك فى إيران الخفية وحلف المصالح. و جاءت فترة أحمدى نجاد، التى تميزت بالصلابة والراديكالية فى التعامل الأمنى والداخلى والخارجى، وساهم فى عزلة إيران، مما أعطى الفرصة لإسرائيل فى الضغط باتجاه العداء لإيران أكثر، و كان من المفترض أن تساهم الدول الخليجية فى الفعل السياسى الأكبر فى ظل تضائل إيران وارتدادها، ولكن القضية كانت فى الربط بين الشيعة وإيران والتصدى للجانب العقدى و طغيانه على حساب الجانب السياسى والفكرى والتحرك الدولى. وكان الملف النووى هو النتيجة الحتمية لهذه العزلة وهذا النكوص، و ما من شك أن إيران استفادت كثيرًا من غياب المراقبة العالمية، فى ظل الثورات العربية،حيث غطت أخبارها على أخبار الملف النووى الإيرانى، كما تؤكد بعض التقارير الإخبارية العالميةذلك. و إبان هذه الفترة، حدثت مواجهات وتحديات وأعمال شغب وعنف داخلى، ولكن القضية الأخطر والتى طغت على السطح، ولا بد من قراءتها بتمعن هى قضية الخلاف العميق بين المرشد خامنئى والرئيس نجاد حول الملف النووى وقبله، وما هى انعاكاساتها وآثارها على الداخل الإيرانى؟ (2) كما ذكرنا سابقًا، أن لإيران أهدافًا ثلاثة: النووى، الأمن الإقليمى، تصدير الثورة، وأن أولوياتها ليست ثابتة بل متغيرة! وبالأمس القريب كان الملف النووى هو الذى له الأولوية على جميع القضايا المطروحة، وعلى جميع الأهداف الأخرى، فى ظل الفترة النجادية الراديكالية، وقد تسارع الفعل فى إيران نحو تخصيب اليورانيوم وإنشاء أكثر من مفاعل فى شرق وغرب وشمال البلاد، وفى ظل التصدى الإسرائيلى المتهم بقتل بعض العلماء النووين الإيرانيين. ويبقى الوضع الإيرانى محيراً حتى لكثير من الباحثين، ولهذا تتباين وجهات نظرهم تجاه السلوك الإيرانى، وتجاه تحليل لحدث محدد، واليوم تمر إيران بمرحلة مفصلية، ومعها الخليج، فلابد من فهم السياسة الإيرانية وإلى أين ستصل! توجدبعض قضايا لا بد من الوقوف عليها، قد تدلنا على بعض الدلالات فى الحدث النووى: (1)أرسلت إيران برسالة إلى العالم كله، والأمريكان على وجه الخصوص، تمثلت فى فتوى خامنئى بتحريم التصنيع النووى، وعمل الصناعة العسكرية النووية، و جاء فى الفتوى: (أن إيران لن تسعى إلى صنع الأسلحة النووية..)، و أن تطوير التخصيب والعمل النووى فى حدود السلمية فقط، هذا ما أوردته الكثير من وكالات الأنباء و المواقع الإلكترونية، و هى بلا شك، رسالة تقبلها المجتمع الدولى بإيجابية على حذر، و اعتبرها رسالة تدشن لحقبة إيرانية جديدة، و أن إيران حقًا تريد من المجتمع الدولى الوثوق بها والتعامل معها وفق هذا الإطار، فقد نقلت (صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية فى مقال كتبه دايفيد أغناطيوس،بقوله إن "التحدى بالنسبة إلى المفاوضين هو ما إذا كان من الممكن تحويل خطاب خامنئى العام إلى التزام جدى قابل للتحقق بعدم صنع قنبلة نووية".) . ومن الغريب أن التصريحات الإيرانية بهذا الصدد كانت تنطلق من قوة فى الخطاب الإعلامى، وتريد المفاوضات دون إملاء أى شروط، فقد صرح سعيد جليلى أمين المجلس الأعلى للأمن القومى الإيرانى بقوله: (إننا نرحب بالحوار من أجل التعاون ونؤكد أن لغة التهديد وممارسة الضغط ضد الشعب الإيرانى عديمة الجدوى) . و كذلك تصريحات وزير الخارجية صالحى: ("إن إيران لن تقبل أى شروط مسبقة لاستئناف المحادثات النووية") . وكل ذلك من قبيل اللعب الإعلامى واللعب بالأوراق السياسية، كما عودتنا إيران! هذه الرسالة الإيرانية، حركت الأمريكيين ودفعت أوباما لتسليم رسالة عبر أردوغان إلى خامنئى مفادها: (من خلال الواشنطن بوست): (أن واشنطن قد تقبل بمواصلة طهران برنامجًا نوويًا مدنيًا مقابل عدة ضمانات.....) . إذن هذه الرسائل المتبادلة تؤكد أن الجانبين ومن قبل رسائل أحمدى نجاد للاتحاد الأوربى حول القضية نفسها) . إن هناك نية إيرانية للتفاوض و إن إيران لديها أوراق أخرى أرسلتها عبر المفاوضات فى إسطنبول! ماذا تريد أمريكا من إيران؟ وما هى الضمانات التى تريد تأكيدها حتى تضمن للإيرانيين وتجازف فى الجانب الإسرائيلى الذى يصر على توجيه ضربة عسكرية لإيران؟ يبدو أن الأمر يحمل بين طياته قضايا كبرى، ولكن هل سيرضى الجانب الإيرانى من الأمريكان ذلك إلا بعدة ضمانات تأكيدية من الأمريكان، ليس آخرها الورقة السورية؟ و سنرى لا حقا، كيف تكون الأدوار الإيرانية فى هذا الصدد، وعلى النقيض من ذلك! (3) 2-الأمر الآخر يتجلى فى ردة الفعل الإيرانية المتمثلة فى زيارة نجاد إلى الجزر المحتلة بعد انتهاء جولة المباحثات فى إسطنبول وحديثه هناك عن الحضارة الفارسية والملف النووى الإيرانى، مما قد يعطى انطباعًا بأن الخلاف فى القيادة الإيرانية بدا واضحًا، ولا يمكن تغطيته، أو أن للجانب الإيرانى وجهين مختلفين، فسياسة للتصعيد والتهويل وإرغام المجتمع الدولى، وأخرى القوة الناعمة و التقرب من الآخر، وهما سياستان برع فيها الإيرانيون كثيراً. ولكن الملفت للنظر فى هذا الشأن هو بروز الخلاف الكبير على السطح بين أحمدى رئيس الجمهورية وبين المرشد، مما قد يعطى إشارة إلى أن زيارة نجاد جاءت لتتوج هذا الخلاف، ولتبرز الدور السياسى لرئيس الجمهورية، الذى يريد أن يلعبه ولو على حساب الإيرانيين. 3-الرسالة التى ذكرناها نقلت للإيرانيين من قبل أوباما، حملها رئيس وزراء تركيا لإيران، وهى تدل على رسميتها وعلى أهميتها، وعلى قوة الدور التركى المرتقب فى التحولات العالمية، و على العلاقة بين الرئيس أوباما وأردوغان حلفاء الأمس، و أن تركيا تريد لها دورًا إقليمياً، لأنها تدرك أن الوضع المستقبلى قد يقلص هذا الدور على حساب تضخيم الدور الإيرانى، لهذا أرادت استبقاء الحدث وإعطاء تركيا الدور السياسى المرتقب، بيد أن الإيرانيين بعد استلام الرسالة حاولوا تقليص هذا الدور، برفضهم إسطنبول عاصمة للمحادثات، ولم ينجحوا، ولكنهم نجحوا فى تحويل الجولة التالية نحو قبلتهم وإخراج الأتراك من اللعبة، بتحويل المفاوضات والمباحثات إلى بغداد، لتؤكد إيران للعالم ول(5+1)، أنها لا تزال تسيطر على هذا الجانب من العالم، وأن بغداد سترسم سياسة مستقبلية لإيران، وأنها لن تتخلى عن دورها هذا، ويمكن القول إن الإيرانيين لا يزالون يتمسكون بالعراق، وأنها غير داخلة ضمنيًا تحت مظلة هذه المفاوضات. 4- و بعيداً عن صراعات النظام الإيرانى الداخلية تأتى تصريحات هاشمى رفسنجانى، حول الغرب والأمريكان والسعودية لتضع المسمار الأخير لنعش الخلافات والصراعات فى المنطقة، و هو تحول مهم وله دلالات خطيرة فى المنطقة مستقبلاً إن لم يستوعبه الخليجيون، فقد قال الرفسنجانى فى مقابلته: (إن العلاقات مع السعودية أكبر من المعادلات السياسية.. ومحذرًا من الحرب الباردة بين الدولتين)، ثم ذكر كلامًا مهمًا وخطيرًا لمن يقرأه «من كل النواحى والجوانب إذا نظرنا سنرى أن إيران والمملكة العربية السعودية تعتبران من أكبر البلدان الإسلامية، فمن حيث الجغرافيا هما من أهم الدول ذات الإستراتيجية فى المنطقة وتتصلان بالمياه البحرية، ومن حيث الطاقة، كلا البلدين لديهما المركزان الأول والثانى فى النفط والغاز ومن حيث عدد السكان، هما الدولتان الإسلاميتان الأكثر سكاناً، ومن حيث السياسة فإن البلدين كانا وما زالا مطمعاً للغرب والشرق، ولو نظرنا إلى داخل المجتمع الإسلامى من وجهة نظر أهل التشيع وأهل السنة نرى أن إيران هى ذات الأكثرية الشيعية والأقلية السنية وبالعكس تعتبر المملكة العربية السعودية ذات الأكثريةالسنية والأقلية الشيعية، وإن منعت هاتان الدولتان المتطرفين ولم تتأثرا باستقراءات الآخرين، تستطيعان أن تكونا عامل السلام والسكينة للمسلمين». ما الذى يريد قوله الرافسنجانى؟ وما هو المسكوت عنه فى خطابه؟ دلالات مهمة، ومزعجة فى آن واحد، لا بد من التعرض لها لاحقاً.