تسجل كتب التاريخ ما كانت عليه اليونان القديم من ديمقراطية، حتى حل عام 399 قبل الميلاد، حيث اقترف هؤلاء ما رأت فيه الأجيال اللاحقة وصمة عار فى جبين الديمقراطية الأثينية، كانت ثروة البلاد فى هبوط، فراح كثيرون يبحثون عن كبش فداء يوجهون إليه اللوم، وكان الشعور سائداً بأن الفضائل اهتزت، وكان المسئولون عن ذلك فى نظرهم فئة من المعلمين ذوى الأفكار الجديدة يتقدمهم معلم يعمل نحاتاً يقال له سقراط. قدم الفيلسوف إلى المحاكمة، وكانت محكمة غريبة تتكون من 565 قاضياً تم اختيارهم من العوام بالقرعة العمياء، وازداد ضجيج القضاة وأحس رئيسهم بالخطر الذى تتعرض له حياة الفيلسوف من مثل هذه اللهجة الحادة، فقال له: أليس من الأفضل لك أن تكسب عطف المحكمة بدلاً من أن تتحداها بهذا الزهو والشموخ؟، فأجاب سقراط: أتريدنى حقاً أن استرضاكم يا أهل أثينا بالمديح والثناء الكاذب وأن أرضى غروركم بالتوسل والبكاء؟، ثم استطرد: أيها القضاة احكموا بما شئتم واعلموا أن نفوسكم هى التى فى كفة الميزان لا نفسى، فاحرصوا على العدل والحق. وصدر الحكم على سقراط بالإعدام، وتم إيداعه السجن لحين تنفيذ الحكم، وفى تلك الأثناء تسلل إليه ذات ليلة تلميذه الشاب "كريتون" وهمس فى أذنه: لقد أعددنا كل شىء للهرب فهيا بنا يا أستاذى إلى الحرية، فتطلع إليه سقراط طويلاً ثم قال: كلا يا كريتون لن أهرب من الموت، لأنى لا أستطيع أن أتخلى عن المبادئ التى ناديت بها عمرى كله، بل إننى يا كريتون أرى هذه المبادئ الغالية التى ناديت بها حتى اليوم جديرة بذلك الثمن، وفى ذلك اليوم حمل إليه الحارس كأس السم فتجرعها سقراط بكل شجاعة ومات بعدما ترك للإنسانية نموذجًا يحتذى فى احترام القوانين. لقد رفض سقراط مخالفة قانون بلاده الذى فى ظله تم الحكم عليه بالإعدام ظلمًا، بل طالب تلاميذه بالعمل على تغيير هذا القانون، وقال لتلاميذه إنه لا يقبل أن يهدم المبادئ التى حرص طوال عمره على إرسائها، ورأى أن يتم احترام القانون حتى ولو كان ظالمًا، لأن الدولة التى لا يحترم فيها القانون هى "الدولة الرخوة" الضعيفة التى تشبه الحياة فيها حياة الغابة، حيث يكون البقاء للأقوى، ويستطيع كل فرد بما يملك من نفوذ أو سلطة أو مال أن يفعل ما يريد دون أى اعتبار لقانون البلاد. والفرق شاسع بين المعلم الكبير سقراط، الذى عاش قبل 2500 سنة، وبين معلمى هذه الأيام، رغم الفارق الرهيب فى مستوى الحياة بين زمن سقراط وزمننا هذا، حيث شهدت البشرية تقدمًا حضاريًا رهيبًا، من المفترض أن يكون سببًا لاحترام القوانين كما فى الدول الغربية، التى ما تقدمت ولا ارتقت إلا باحترام القانون. فى زمن الإنترنت والسموات المفتوحة، وحقوق الإنسان، كان يبرز فى مصر معلم كبير، يعد أحد شيوخ الفقهاء وأبرزهم فى القانون الجنائى، هو الدكتور أحمد فتحى سرور، الذى تعلمت فى دراستى الجامعية قبل 30 سنة من أساتذتى ما تعلموه منه، كفقيه قانونى له ثقله ووزنه داخل وخارج مصر، وكنت أتحرى أى مؤلف له فى مكتبة الكلية لأقرأه، ولما جلس هذا الرجل على رأس السلطة التشريعية فى مصر، كنت فرحًا، وتصورت أنه سيقيم العدل الذى كتب عنه، وسيحيى دولة القانون التى حدثنا عنها وكأنها "يوتوبيا" القريبة التحقق، لكنى صدمت فى الرجل حينما جلس 20 سنة متناسيًا مركزه العلمى، وارتضى أن يعمل خادمًا لحاكم غشوم جهول مستبد وفاسد، وقبل على نفسه أن يكون كما الترزى الماهر فى تفصيل القوانين التى تدعم وتحمى الفساد، وظل على مدى 20 سنة يدير السلطة التشريعية فى البلاد لصالح عصابة الفاسدين، الذى أصبح دون أن يشعر واحدًا من كبار زعمائها. دولة القانون التى أحلم بها هى الدولة التى يحترم فيها القانون حتى ولو كان ظالمًا، ويتم تطبيقه على جموع الشعب بلا تفرقة، ذلك أن أحد أهم صفات القاعدة القانونية هى أنها "قاعدة مجردة" تطبق على الجميع بلا تفرقة. دولة القانون التى أحلم بها، تقتضى سرعة تطبيق العدالة، لأن العدل البطىء ظلم شديد، وانعدام العدل يعنى انعدام السلطة، وانعدام السلطة يعنى انتهاء الدولة. دولة القانون التى أحلم بها تعنى تنفيذ الأحكام القضائية التى أصبحت واجبة التنفيذ، لأن عدم تنفيذ الأحكام القضائية يعنى عدم جدوى وجود المؤسسة القضائية بما لها من سلطات واختصاصات وأيضًا نفقات. دولة القانون هى خلاصة كل النظريات عن مفهوم الدولة، حيث يوجد فى مقابلها اللا دولة، أو الغابة، حيث يحكم القوى ويسود، ويُسحق الضعيف وتسلب كل حقوقه، والذى يستطيع إقامة دولة القانون فى مصر هو الجدير بأن نعطيه صوتنا بصرف النظر عن انتمائه السياسى. [email protected]