ما إن نشرت صحيفة "هآرتس" ما قالت إنها محاضر من اعترافات الأسير في السجون الإسرائيلية والقيادي البارز في حركة فتح مروان البرغوثي، إلا وأكد كثيرون أن هذا الأمر غير بعيد عن محاولات تل أبيب التغطية على الإضراب الذي بدأه حوالي 1500 أسير فلسطيني منذ 17 إبريل من جهة وكسب التعاطف الدولي معها من جهة أخرى. وكانت صحيفة "هآرتس" نشرت في 20 إبريل ما قالت إنها محاضر من اعترافات البرغوثي تفيد بأنه أقر بتمويل العديد من العمليات الاستشهادية ضد إسرائيل وأعطى أوامر مباشرة بالقتل، وذلك بهدف تحسين سمعته في الشارع الفلسطيني. وجاء في تلك المحاضر المزعومة أيضا أن البرغوثي أخبر المحققين الإسرائيليين أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أيد تنفيذ العمليات الاستشهادية في قلب إسرائيل عرفات، قائلا:" عرفات كان ذكيا للغاية ولم يعط أمرا مباشرا بتنفيذ العمليات، غير أنه كان يوميء برأسه إيجابا عندما كانت القيادات الفلسطينية تتحدث معه عن جدوى العمليات الاستشهادية وأهميتها". والأخطر من هذا - بحسب المحاضر السابقة- أن البرغوثي اعترف خلال التحقيقات معه بأن عرفات كان يقوم بالتمويل المباشر للعمليات الاستشهادية من مكتبه وكان يرعى الاستشهاديين وعائلاتهم ، ويحث الأطفال الفلسطينيين على الاشتراك في هذه العمليات وقتل الإسرائيليين ، مشيرا إلى ذكاء عرفات الذي لم يكن يصرح مباشرة بتنفيذ العمليات، ولكنه كان يهييء كل الظروف للقيام بها. كما نسبت المحاضر المزعومة للبرغوثي قوله إن عرفات كان يتعهد للكثير من الزعماء وعلى رأسهم الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك بأنه لن يدعم أي عمليه استشهادية، غير أنه كان يدير في الخفاء الكثير من الألاعيب السياسية التي تخالف هذا التعهد، مشيرا إلى أن عرفات كان سياسيا محنكا يلعب بكل الأوراق من أجل تحقيق المكاسب السياسية للقضية الفلسطينية. وأشارت كذلك إلى أن البرغوثي اعترف بأنه كان يتولى مهمة أخذ الأموال من مكتب عرفات لإيصالها إلى عائلات الاستشهاديين وأن عرفات كان يضع معايير خاصة لكل عائلة استشهادية، الأمر الذي أغضب الكثير من العائلات وأصابها بالضجر لوجود الكثير من الاختلافات بينها في تلقي هذه الأموال ، إلا أن هوى عرفات وتفضيله لعائلات فلسطينية بعينها هو الذي كان يتحكم في الأمر. وعلى الفور، نفت السلطة الفلسطينية صحة المحاضر السابقة، وقال وزير شئون الأسرى والمحررين عيسى قراقع إن الأنباء التي نشرتها "هآرتس" حول البرغوثي كاذبة وغير صحيحة وتحاول تشويه صورته كونه تحول إلى حالة رمزية وطنية على المستوى الفلسطيني والعالمي. ونقلت وسائل الإعلام الفلسطينية عن قراقع القول في بيان له إن البرغوثي لم يعترف بشرعية المحكمة الإسرائيلية، ورفض تسلم لائحة الاتهام، معتبرا أن توقيت نشر تلك المزاعم جاء لإحباط معنويات الأسرى المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال. وأضاف قراقع أن البرغوثي عزل لمدة عامين في زنازين انفرادية في سجون الاحتلال بسبب عدم اعترافه بأي تهمة. وفي السياق ذاته، نفى رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدورة فارس صحة ما نشرته صحيفة "هآرتس"، معتبرا أنها محاولة من أجهزة الأمن الإسرائيلية للتغطية على خيبتها وفشلها في انتزاع أي كلمة خلال التحقيقات مع البرغوثي التي استمرت أربعة أشهر متواصلة تخللها استخدام أبشع أساليب التعذيب النفسي والجسدي. وذكرت صحيفة "القدس العربي" اللندنية أن فارس تحدى في بيان له أن تبرز أي جهة إسرائيلية أي وثيقة أو مستند أو ورقة عليها اعتراف من أي نوع وموقع عليها من قبل البرغوثي، لافتا إلى أنه رفض الاعتراف بالمحكمة ولم يتعاط معها ولم يبرز في تلك المحكمة "الصورية" أي وثائق تتضمن اعترافا منه. ولعل توقيت نشر المحاضر المنسوبة للبرغوثي يكشف أيضا بوضوح أبعاد مؤامرة إسرائيل، حيث جاء الترويج لتلك المزاعم بعد أن قضت محكمة إسرائيلية في سجن هداريم بعزل البرغوثي داخل زنزانة لمدة أسبوع كامل ابتداء من 2 إبريل، وذلك بسبب دعوته إلى المقاومة الشعبية ووقف المفاوضات مع إسرائيل. وكان البرغوثي الذي يحظى بشعبية واسعة بين الفلسطينيين، وكان يشغل منصب أمين سر حركة فتح بالضفة الغربية، وطالما اعتبر الخليفة المحتمل للرئيس الفلسطيني محمود عباس، بعث برسالة في أواخر مارس الماضي من داخل سجنه في الذكرى العاشرة لاعتقاله دعا خلالها إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية ورفض استئناف المفاوضات مع تل أبيب ومواصلة المقاومة الشعبية والسلمية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وأكد إلياس صباغ محامي البرغوثي أن هذه ليست المرة الأولى التي يعاقب فيها القيادي الفتحاوي بالعزل منذ اعتقاله في عام 2002، حيث أنه محكوم بالسجن المؤبد أربع مرات بتهمة قيادة الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن نشر المحاضر المنسوبة للبرغوثي جاء بعد ثلاثة أيام فقط من بدء نحو ألف وخمسمائة أسير فلسطيني إضرابا عن الطعام، بالتزامن مع خروج مظاهرات احتجاجية واسعة في أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل الخط الأخضر في "يوم الأسير" الذي يرتبط بذكرى خروج الأسير الفلسطيني محمود بكر حجازي من سجون الاحتلال في أول عملية تبادل للأسرى بين الثورة الفلسطينية وإسرائيل في 17 إبريل 1974 . وبالنظر إلى أن صفقات التبادل التي تمت في أعقاب الإفراج عن حجازي وآخرها صفقة "جلعاد شاليط" أكدت أن إسرائيل لن تفرج عن آلاف الأسرى في سجونها بدون ضغوط قوية وأوراق مساومة، فقد حرص الفلسطينيون على إحياء "يوم الأسير" هذا العام بشكل مختلف عبر تنظيم إضرابات عن الطعام واعتصامات، بجانب الاحتجاجات المتواصلة لإبراز قضية الأسرى مجددا باعتبارهم أسرى حرب ومواجهة الاعتقال الإداري الذي يتعرضون له دون محاكمة والذي يتنافى مع كافة مواثيق حقوق الإنسان الدولية. ويبدو أن الأمور السابقة أثارت قلق إسرائيل بشدة لأنها تسلط الضوء مجددا على انتهاكاتها الصارخة لاتفاقيات جنيف حول أسرى الحرب، كما أنها تتناقض مع مخططها الهادف لاستغلال أحداث سوريا للخروج من عزلتها وتجميل صورتها أمام العالم، ولذا سارعت لخلط الأوراق مجددا عبر محاولة تشويه صورة الأسرى، وعلى رأسهم البرغوثي، وإظهارهم على أنهم "قتلة" وليسوا مقاومين.