من لم يتابع هتافات المصريين خلال الثورة المصرية من داخل ميدان التحرير فقد فاته الشىء الكثير.. فلا شك أن رصد هتافاتهم من داخل الميدان يكشف لك أماكن هؤلاء المطحونين الذين أشعلوا الجانب الغربى منه بصفة خاصة، بصورة تستحق القراءة وتسليط الضوء عليها.. فربما تكون الجوانب الأخرى من الميدان قد شهدت تركيزاً على الأبعاد السياسية وإسقاط النظام أكثر من الابعاد الاجتماعية والاقتصادية.. لكن حين تتطلع لوجوه هؤلاء المعذبين فى دولة مبارك الظالمة فى هذا الجانب تحديداً، وترى هندسة الفقر، وقد فعلت فعلها فى أجسادهم وصحتهم، تشعر بكم المشاكل الاجتماعية والآلام التى سكنت تلك الأجساد وخرقتها.. بل إن المشاركة الحية فى تلك الهتافات لا تكشف لنا عن ذكاء المصريين وفهمهم لكثير من السياسات التى مورست عليهم فحسب، بل تقطع بسرعة بديهتهم وقوة قريحتهم فى التعبير عن حالتهم الثورية فى إيجاز محكم وتفصيل مدهش، يلخص كل المكابدات الاجتماعية التى عانوها فى فترة مبارك.. وإذا كان البعض قد وصف من ابتدع شعار،" عيش –حرية- عدالة اجتماعية"، بالحكمة والقدرة على حشد الناس حول الثورة، كونه اختزل تجربة المعاناة التى عاشها المصريون فى تلك الصياغة الخلابة، إلا أن المتابع لهتافاتهم خلال فترة الثمانية عشر يوماً، عمر الثورة، يجد تلخيصاً لسياسة الحرمان والفقر التى طبقها مبارك ونظامه. ولنضرب بعض الأمثلة لتلك الهتافات لنرى إبداع الجماهير فى تحديد المسئولين الحقيقيين عن هندسة الفقر التى طبقت عليهم بمنتهى القسوة: يا وزراء طفوا التكييف... مش لاقيين حق الرغيف. أقول يا مبارك يا مفلسنا.. إنتا بتعمل إيه بفلوسنا. مش عايزينو مش عايزينو.. حتى لو كب علينا ملايينو مش هنسلم مش هنطاطى.. إحنا كرهنا الحزب الواطى عايزين حكومة جديدة.. بائينا ع الحديدة يا جمال قول الحق.. أبوك حرامى ولا لأ ثورتنا ثورة شبابية.. ضد مبارك والحرامية ثورتنا ثورة عافية.. ضد الحمار والحرامية مصر بلدنا مش هفية.. حنحارب كل الحرامية ولو حللنا تلك الهتافات السابقة لقلنا بأنها لخصت وعى الناس بسياسات مبارك وزبانيته التى سلبت حقهم فى الحياة الكريمة.. فرصدت جشع الحاكم وزبانيته، ولخصت القوى التى دفعته للظلم.. وحددت ملامح الطفيليين والمتسلقين، الذين تغولوا فى عهده.. فمن الواضح أن هذه الهتافات قد عكست آلام الطبقات الفقيرة ومعاناتها.. ولخصت سياسات الحزب الوطنى الحاكم فى توفير الحماية لأصحاب المصالح الاقتصادية، الذين وصفوهم بالحرامية، وتسببت فى تراكم الثروة فى أيدى قلة من الناس على حسابهم.. حتى أصبحوا على الحديدة، فلم يبق لديهم أية قدرة على شراء حتى رغيف العيش. وجاءت أيضاً الهتافات لتلتصق بحياة الناس، فرصدت كل المآسى التى جلبها لهم النظام وسجلتها.. فانطلقوا بخفة ظل، كما جرت العادة، ناقدين له وفاضحين لكل المظالم التى عانوها طيلة الثلاثين عاماً.. ولنأخذ نماذج من تلك الهتافات، لنرى هذا الانتقاد اللاذع والحاد على أرض الواقع: عايزين بلدنا حرة.. العيشة بقت مرة ارفع صوتك زى الناس.. إحنا كرهنا الظلم خلاص. ياللى رايح قول للى جاى.. حسنى مبارك سرق الشاى يا سوزان قولى للبيه.. كيلو العدس بعشرة جنيه يا سوزان قولى للبيه... كيلو اللحمة بمية جنيه يا سوزان قولى للبيه.. متر مدينتى بنصف جنيه قال هما بياكلوا حمام وفراخ... وإحنا الفول دوخنا وداخ قال هما بيلبسوا آخر موضة.. وإحنا العشرة منا فى أوضة وإذا تفحصنا الهتافات السابقة، لوجدنا أن المصريين حينما شعروا بأن سيف الفقر قد أصبح مسلطاً عليهم، لم يلعبوا دوراً فى تصعيد الحركة الشعبية ضد النظام فحسب، بل صاغوا كل الجرائم التى ارتكبها فى حقهم فى جمل قصيرة ومعجزة، تعد وثيقة إدانة تاريخية تروى للأجيال القادمة حجم الظلم الذى مارسه النظام وزبانيته عليهم.. انتقدوا فيها تعزيزات الفقر التى صنعهتا قوانين مبارك وشلته.. فلخصت هتافاتهم رفضهم لزيادة الضرائب وارتفاع أسعار السمن والسكر والشاى واللحوم والعدس.. وانتقدت جمود المرتبات وثبات الأجور والاستبعاد من التأمين والرعاية الصحية.. واعترضت على حشرهم فى أماكن ضيقة دون توفير أدنى مقومات الحياة، من منازل ومياه ومدارس ومستشفيات وخدمات عامة.. تلك كانت هى بعض الهتافات التى نطق بها شعبنا الكريم خلال ثورته معبراً عن الظلم الاجتماعى الكبير الذى تعرض له طيلة الثلاثين عاماً السابقة.. وبالطبع هو لا يزال ينتظر التغيير الكامل لكل السياسات، التى تسببت فى فقره وجهله ومرضه.. لذا نأمل من أى رئيس قادم أن يضع فى برامجه ما يضمن توفير العدالة ولقمة العيش الكريم، لهذا الشعب الذى صبر طويلاً وجاهد كثيراً فى الحصول عليها.