فى وقت غاية فى الحرج تمر به مصر، يحلو للبعض أن يصفى حساباته مع رموز غابت عن المشهد بالحديث عما يسمى بالمسيحية الصهيونية، لمجرد الربط بين كلمتى المسيحية والصهيونية فى جملة واحدة. ويأتى هذا الربط فى إطار حملة من الطعن فى المسيحية ومن يؤمنون بها ودون تدقيق فى المصطلح، بل وبابتكار مصطلحات هى من نسج الخيال أكثر منها تعبيرًا عن الواقع. وواقع الحال أنه لا يوجد شىء فى اللاهوت اسمه المسيحية الصهيونية، ولا علاقة لهذا المصطلح بالإيمان المسيحى، ولكن هذا المصطلح أحد الأمثلة التى توضح بجلاء النتائج المترتبة على الخلط بين الدين والسياسة، فهناك نوع من الاختراق السياسى لكنائس بعينها فى الولاياتالمتحدة، من قبل اللوبى اليهودى الموجود بقوة فى الحياة السياسية فى أمريكا، وهذا شكل من أشكال خلط الدين بالسياسة على نحو ما يحدث فى أماكن أخرى فى العالم ولكن بصور مغايرة. غير أن هذا الخلط يمارس أيضاً من جانب عدد من المفكرين عندنا يسعون لطرح هذا الموضوع وربطه بقضية لها حساسية خاصة فى بلادنا، وهو خلط يزيد المشكلة تعقيداً ولا يساعد فى حلها، وإلباس موضوع دينى صبغة سياسية تفتح الباب لاستنتاجات خطيرة، فلا يمكن اعتبار رغبة البعض فى ممارسة طقس دينى تطبيعاً وربطه بقضية سياسية هى قضية المسيحية الصهيونية، وفى كل الأحوال، يحتاج تناول هذا الموضوع إلى حساسية مفرطة، وفى هذا التوقيت، خصوصًا مع قرار بعض المسيحيين الحج إلى القدس بمناسبة عيد القيامة. وثمة حقائق يجب التنويه إليها، قبل التعرض لهذه القضية الحساسة لرفع أى التباس وخلط يؤدى إلى التشويه وإثارة الشكوك فى طوائف دينية هى من مكونات نسيج مجتمعاتنا العربية: أولاً: إن المسيحية الأرثوذكسية بوجه عام لا تحمل أى مودة للأيديولوجية اليهودية لأسباب مرتبطة باللاهوت الأرثوذكسى من ناحية، وبالصراعات التى دارت بين المسيحيين الأوائل والمجتمع اليهودى من ناحية أخرى، وهذا ما يلاحظه الدارسون بجلاء فى كتابات آباء الكنيسة الأولين، فضلاً عن أن هذا هو منهج اللاهوت الأرثوذكسى، ولسنا هنا فى مجال تفاصيل لاهوتية، لكن هذا أمر مقطوع به، وهو موروث عن الآباء فى جميع الكنائس الأرثوذكسية على اختلاف وتنوع قياداتها. ثانياً: إننا نود أن نذكّر الجميع، مسلمين ومسيحيين، أن جيوش العرب لم يدخلوا مصر غزاة، وأن الأقباط لم يدخلوا قتالاً وخرجوا منه مهزومين أو صاغرين، بل إن البطريرك بنيامين الأول كان قد خرج على رأس آلاف الرهبان لاستقبال عمرو بن العاص وجيشه، وأن مصر أُخذت كلها صلحاً، وأن القتال المحدود الذى حدث فى الإسكندرية مع حامية المقوقس الأجنبى لم يشارك فيه قبطى واحد. وهذه الحادثة حددت، وإلى الآن، العلاقة بين المسيحيين والمسلمين من ناحية وبين الكنيسة والدولة من ناحية ثانية. ولم ينظر المصريون الأقباط، الذين عانوا اضطهادًا على أيدى المحتلين الرومان، بنظرة عداء إلى جيوش العرب القادمة من الجزيرة العربية، وعزز ذلك العلاقات الودية التى نشأت بين الإسلام فى بدايات الدعوة فى الجزيرة العربية وبين العالم المسيحى المحيط فى الحبشة (حيث الهجرة الأولى للمسلمين الأوائل)، وفى مصر التى دارت مراسلات بين الرسول عليه السلام وبين المقوقس. ثالثاً: إن القبائل العربية المهاجرة التى توطنت فى قنا لم يزد تعدادها عن 5٪ من السكان، وما المسلمون الذين بلغ تعدادهم الآن إلى 90٪ من السكان إلا الأقباط أنفسهم الذين اعتنقوا الإسلام، وبذلك، فلا مفر من الاعتراف بأن المسلمين المصريين ليسوا إلا أبناء خؤولة وأبناء عمومة للمسيحيين من أقباط مصر - ولست أظن أن تقسيم الأمة وتقسيم أبناء الخؤولة والعمومة على أساس الدين - من الإسلام فى شىء، طالما كان الجميع فى سلام ومودة، ثم من الذى ينكر أن المسيحيين كانوا على مدى الأجيال جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية بناءً وتأثراً. رابعاً: إن الأجيال المسيحية الشابة، التى شاركت فى ثورات مصر الوطنية منذ نشأة الدولة الحديثة فى مصر وحتى ثورة 25 يناير، خرجت بوعى وشجاعة من عباءة الماضى ورموزه وتراكماته وتسعى لخلق لغة خطاب جديد وميثاق عيش مشترك مع شركاء الوطن من المسلمين، فى منظومة جديدة لا تعترف بالانقسام أو التقسيم. لا يوجد مجال للنقد أو العتاب، فالجميع فى حالة غضب وتنمر لأى نقد، ولكننى أريد أن أطرح هذا السؤال فى صيغة المبنى للمجهول: على أى أساس اختُلقت فكرة عدائية المسيحيين للشريعة الإسلامية؟ طالما أن فكرة مصدرية الشريعة الإسلامية للتشريع تطُرح بتلك الطريقة الحضارية التى قدمتها وثيقة الأزهر؟ قد يكون خطابى هذا مزعجاً لمن يريدون تأجيج الاختلاف بين المصريين على أساس الدين بغية حشد الأصوات والتأييد، ولمن يعتقدون أن الدين ورقة رخيصة ورابحة لحشد التأييد وكسب الأصوات فى الاتجاه الذى يريدون، وقد يؤرق من يتمادون فى إشعال نار الخلاف والاختلاف بين أبناء الوطن الواحد على أساس الدين، لكن الإزعاج الذى قد يسببه خطابى لن يكون، مهما بلغت حدته، على القدر نفسه من الجرم الذى يرتكبه من يعمدون إلى الخلط بين الدين والسياسة فى هذه القضية الحساسة من أصحاب النظرة الضيقة للدين ورسالته. لقد بدأت قوى كثيرة، من الإسلاميين وغير الإسلاميين، وقطاعات كبيرة من الناخبين تدرك خطأ التصويت بنعم على التعديلات التى اقترحها المجلس العسكرى العام الماضى على دستور 1971، ولكن لم يشر أحد، إلى الآن، إلى الخطأ الذى ارتكبته بعض القوى السياسية التى زجت بالمادة الثانية من الدستور، لإقناع الناخبين بالتصويت لصالح التعديلات الدستورية، فى حين أن المادة الثانية لم تكن من بين المواد المطروحة للتعديلات. إن إثارة القلق على هوية الدولة فى الحوار حول التعديلات الدستورية، حال دون النقاش الهادئ والعقلانى للتعديلات والدستور، وفرضت على المجتمع صيغة يتضح كل يوم مقدار ما أحدثته من خلل فى ترتيبات المرحلة الانتقالية الدستورية والسياسية. أيضاً، أدار الأقباط ونخبتهم الدينية والسياسية والاجتماعية معركة التعديلات الدستورية على أساس الهوية الدينية، وقاموا بالحشد على أساس دينى أيضاً ضد التعديلات الدستورية المقترحة، وانساقت وراءهم رموز سياسية مدنية وليبرالية، ولم تتمكن هذه الرموز من إخراج الجدل والخطاب العام على الدستور والتعديلات من إطار الانقسام الدينى والطائفى إلى الإطار المدنى الأوسع، ولا يعنى الطرح المدنى الأوسع ولا الدعوة إلى عدم الخلط بين الدين والسياسة أن يدير الساسة والمجتمع ظهورهم للدين وما يدعو إليه من قيم، وإنما يعنى النهى عن توظيف الدين لتحقيق غايات سياسية. ثمة اعتقاد خاطئ شائع يرى أن المسيحية والإسلام مختلفان فى تصور كل منهما للعلاقة بالسلطة السياسية، ويجرى تفسير عبارة "دع لقيصر ما لقيصر"، وكذلك آيات القرآن الكريم التى تدعو إلى الحكم بما أنزل الله، تفسيراً لا يعطى للدين دوره الرئيسى كقاعدة للقيم وموجه لسلوك الأفراد فى المجتمع، بما فى ذلك الساسة. إن ما نطرحه هنا أن يكون الأساس المدنى للدولة وللنظام السياسى فى مصر ضامناً لاحترام حرية الإيمان، وصونها بأكثر ممن يسعون إلى توظيف الدين واستغلاله لتحقيق غايات سياسية فى إطار الصراع على السلطة. إن صبغ الصراع السياسى بصبغة دينية يخلق أوضاعاً تأبى على الحل. بقى أن نقول للأقباط، إن أحداً لن يفعل شيئاً لأجلهم ولن يفيدهم إلا الثبات على موقفهم فى تحقيق غاية إيمانهم وجوهره القائم على المحبة للجميع والإخلاص للوطن، أما المقاصات الحزبية والرهانات السياسية فكلها وعود خادعة، من يتغطى بالبشر فهو دائمًا مكشوف، ومن يصدق وعود الله ويثبت فى طاعته هو من يحوز الأمان والضمان الحقيقى الذى لا يزول، فما عند الله باقٍ، وهذا هو جوهر الإيمان بالله والثقة فيه. وتحقيقاً لهذه القيم الإيمانية المشتركة بين المؤمنين، أدعو أقباط مصر أن يكتبوا وثيقة للعيش المشترك بعيدًا عن المقاصات السياسية والحزبية وألا يدخلوا فى صراعات ضروس لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وفيما يخص الوطن وشؤونه، فليستشر كل قلبه ويعطى صوته لمن يشاء بكامل حريته ووفقاً لما يرى أنه محقق لمصلحة عامة ومصالح خاصة، فالمصلحة هى الأساس فى الاختيارات السياسية التى تبنى الأوطان وتعمل على رفعتها. رئيس أساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]