لا حاجة لانتظار البيان الختامي لقمة مكة الإسلامية التي تنعقد بحضور زعماء ومندوبي (57) دولة هم أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي؛ فالمكتوب يُقرأ من عنوانه كما يُقال، وما يجري على صعيد الخطاب الرسمي العربي منذ هجمات الحادي عشر من أيلول في الولاياتالمتحدة هو ذاته الاتجاه الدفاعي الذي تنعقد القمة ضمن رؤاه وروحيته أجوائه. ما من شك أن ما تتبناه القمة من مواقف ورؤى هي من الأهمية بمكان بحيث تستحق هذا اللقاء ولقاءات أخرى؛ فالعمل على تحسين صورة الإسلام ونبذ العنف والتطرف، إلى جانب لملمة الموقف العربي والإسلامي على نحو يمنح هذه الأمة مكاناً يليق بها تحت الشمس، كل ذلك يستحق لقاء استثنائياً، بل أكثر من لقاء، لاسيما في مكةالمكرمة مهوى أفئدة المسلمين في كل مكان وزمان. تحت شعار الدفاع عن الإسلام تنعقد القمة، وهو شعار مهم من دون شك، وينبغي أن تلتفت الأمة إلى أفضل الوسائل للدفاع عن دينها وتقديمه بأفضل صورة إلى العالم بأسره؛ فهي أمة مكلفة بذلك، وعليها أن تقوم بواجب التكليف. على أن ما يجري على صعيد الخطاب الرسمي العربي لا يصب تماماً في هذا الاتجاه، بقدر ما يساهم في تكريس تهمة الإرهاب التي يوصم بها الإسلام. يحدث ذلك لأن خطاب الدفاع، -وفي معمعة التراجع أمام الضغوط الأمريكية- ما زال يتحدث عن العنف الذي يتدثر بعباءة الإسلام، على نحو يحاكي -إلى حد كبير- خطاب المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة ومرشديهم الروحيين في الكيان الصهيوني، وهو خطاب يقول- وإن على نحو غير مباشر-: إن البضاعة الفكرية والفقهية والاعتقادية السائدة في العالم الإسلامي هي منتج للتطرف بطبيعتها، وإذا لم يُعد النظر في المنظومة الدينية برمتها فإن الإسلام سيبقى متهماً بإنتاج العنف والإرهاب. ما يجب أن يُقال ابتداءً هو أن صورة الإسلام ليست بذلك السوء الذي يتحدث عنه الكثيرون، فهو ابتداءً لا يزال الدين الأكثر انتشاراً في العالم أجمع، مع أن أهله مستضعفون في الأرض، ولو صح أن الهجمة الإعلامية السائدة في العالم قد شوّهته لما اعتنقه الناس بما في ذلك في الغرب نفسه. يحدث ذلك لأن أحداً لا يقتنع بأن ما يجري من عنف هنا وهناك- وإن حمل شعار الإسلام- هو هوس ديني ليس إلا، وإنما هو ردّ فعل على انتهاكات تُمارس بحق أمة الإسلام، يقع بعضه في دائرة العنف الأعمى، أي أننا إزاء ظاهرة لا هي فكرية ولا هي دينية، بل سياسية بامتياز، وحين يُضاف إلى ذلك ما يحمله العالم من مشاعر رفض للسياسات الأمريكية في العالم، وما تواجهه الغطرسة الأمريكية من تحدٍّ متعدّد الأشكال في مناطق مختلفة، حين يُضاف ذلك لا بد أن يدرك العالم أنه إزاء ظاهرة سياسية لا صلة لها بالأفكار إلا من ناحية توفير الغطاء الدافع للتحدي في نفوس الشبان، وقد قاتل الإيرلنديون على أساس مذهبي، ولم يتجرّأ أحد على اتهام الكاثوليكية بإنتاج التطرّف، كما قاتل يساريون وما زالوا يقاتلون، كما يحدث في نيبال وسواها إلى الآن، ولم يتحدث أحد عن أن الفكر اليساري منتج للتطرف، وفي الولاياتالمتحدة تتكاثر المليشيات اليمينية المسيحية بشكل مذهل، ولا يجرؤ أحد على اتهام البروتستانتية بإنتاج الإرهاب، ولا تسأل بعد ذلك عن عنف المستوطنين المتدينين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيما لا يشير أحد -ولو إشارة عابرة- إلى الدين اليهودي. بل إن العمليات المسمّاة انتحارية ما زالت تتوفر عند التاميل في سيرلانكا لكن أحداً لا يتذكرها على الإطلاق. ما يجب أن يقوله العرب والمسلمون هو: إن موجة العنف الأخيرة التي ضربت المنطقة هي لون من ألوان ردة الفعل على الهجمة الأمريكية الصهيونية على الأمة، وإلا فكيف تكون قبلة المسلمين الأولى محتلة ثم يتبعونها بأحد أهم حواضر الإسلام وموطن الخلافة (العراق)، ثم يريدون من الأمة أن تقف ساكتة على ما يجري، لاسيما في ظل عجز رسمي عن توفير ردود فعل مقنعة على الهجمة؟! كل ذلك لا يقلل من أهمية الجهود التي تذهب في اتجاه الترشيد الفكري والسياسي لما يجري في الساحة الإسلامية من حراك سياسي وفكري وديني، وما من شك أن الالتقاء من أجل ذلك أمر إيجابي، لكنه يفقد إيجابيته حين يتجاهل الظروف الموضوعية التي صنعته. في قراءة ملفات قمة مكة نعثر على طروحات إيجابية كثيرة تتصل بإعادة الاعتبار لوحدة المسلمين والتسامح فيما بينهم، وللغة التسامح عموماُ، وهي لغة ضرورية؛ لأن العالم ليس أمريكا ولا الدولة العبرية؛ إذ إن هناك الكثير من دوله تشكو مما نشكو منه، ولا بد أن نجد طرائق للتواصل مع هؤلاء وتبليغهم رسالة الإسلام، وأقله كسبهم إلى صفنا في مواجهتنا مع الغطرسة الأمريكية الصهيونية. الخطة أو البرنامج العشري الذي تبنته القمة فيه الكثير من الإيجابيات، ومعه لقاء العلماء من مختلف المذاهب لتكريس التسامح والاعتراف بالآخر الإسلامي قبل سواه. ينسحب ذلك على كل ما من شأنه تفعيل العمل الإسلامي المشترك، ذلك أن منظمة المؤتمر الإسلامي لا تزال عاجزة عن توفير رؤى مقنعة تمنحها مصداقية التجمع والشعار، وما من شك أن اللقاء في مكة ينطوي على دلالة بالغة الأهمية لا ينبغي أن تفوّتها الأمة. قمة مكة مناسبة رائعة للقاء والتفاهم، لكن منطلق اللقاء يجب أن يقوم على توضيح موقف الإسلام، وليس الركون إلى موقف الدفاع الذي يكرس التهمة ولا ينفيها. ينبغي أن يُقال بالفم الملآن: إن الأمة تتعرض إلى هجمة شرسة، وأن دينها مستهدف؛ لأنه عنصر قوتها وتماسكها والباعث الأساسي على المقاومة بين رجالها، ولو توقف عن أداء هذا الدور لما كان ثمة مشكلة في أن يكره المسلمون بعضهم البعض، وبعد ذلك ينظرون إلى كل الدنيا نظرة العداء المجرد من كل فاعلية. مَن يطالبوننا بتصحيح ديننا وتغيير مناهجنا لا يفعلون ذلك حرصاً عليه، بل من أجل أن يتوقف عن لعب دور المحرك لمقاومة العدوان على الأمة من قبل من يريدون تعبيدها، وتعبيد العالم لمصالحهم..! المصدر : الاسلام اليوم