المشهد السياسى المصرى الآن يبدو ك "ملهاة" تتفوق بكثير على إبداعات عمالقة الأدب العالمى، عجز شكسبير عن حياكة مثلها، وكذا موليير وهوجو أو جوجول وديستوفسكى، لكن الوحيد الذى اقترب منها وصاغها فى نصوص أدبية عبقرية هو الكاتب والمفكر الكبير الدكتور محمد عباس، رسم صورة حقيقية لما جرى على مدى العقود الماضية فى مصر، قبل أن تحدث وقائعها فسبق زمنه بصورة مذهلة، فكتب روايات: قصر العينى، الحاكم لصًا، مباحث أمن الوطن، وقد تكون هى الأعمال الأدبية الوحيدة التى رسمت أصدق صورة لما تشهده مصر الآن. مصر تشهد "تقليبة" مجتمعية من شانها أن تخرج عنها نفايات وأبخرة وأدخنة، ثم يخرج من بين الثرى النفائس التى دفنت خلال العهود الماضية، لكن ذلك سوف يحتاج جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلاً. ثمة تساؤل بديهى يطرح نفسه على كل مراقب للموقف السياسى فى مصر، وهو: هل الذين رشحوا أنفسهم لرئاسة مصر يرغبون فى خدمة المواطن المصرى ورفع المعاناة عن كاهله؟ أم أنهم يحلمون بالأبهة التى يعيشها الرؤساء والملوك، خاصة رؤساء وملوك العالم الثالث المرفوع عنهم الحرج ولا توجد أية قيود على تصرفاتهم وسلوكياتهم، فيتصورون أنهم يقولون للشىء كن فيكون!!. قدر للشعب المصرى أن يعيش مغلوبًا على أمره مطحونًا ما بقيت الحياة، فهو الشعب الذى ذاق المر من حكامه على امتداد تاريخه منذ عهد الفراعنة الجبابرة، ومن يقرأ تاريخ هذا الشعب لن يجد فى شعوب الأرض كلها شعبًا عانى ولو جزءًا مما عاناه، وهو أكثر شعوب الأرض خضوعًا للحاكم الأجنبى، منذ عهد الهكسوس، ثم الفرس، فالإغريق (اليونانيون)، ثم الرومان، ولما جاءه الفتح الإسلامى فى عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب، لم يلبث أن عاد لمعاناته بعد انتهاء الخلافة الراشدة، وتحولها إلى ملك عضود، ثم حكمه الطولونيون (أحمد بن طولون من أصل تركى) فالإخشيديون (محمد بن طغج الإخشيدى من بلاد ما وراء النهر)، ثم كافور العبد الحبشى الأسود، وبعده جاء الفاطميون (من بلاد المغرب) بمذهبهم الشيعى الرافضى المنافى للإسلام، ثم الأيوبيون (من أصل كردى)، وبعدهم جاء عصر المماليك (غلمان من كل بلاد الدنيا يشترون من سوق النخاسة) الذين أذاقوا الشعب المصرى صنوفًا من المذلة ليس لها سوابق فى التاريخ، ومن بعدهم خضعت مصر للعثمانيين بالاسم فقط لأن حكامها الفعليين كانوا هم المماليك، ثم قصدها المستعمر الفرنسى، ومن بعده الإنجليزى، حتى انتهى الحال لأن يحكمها أبناؤها بعد ثورة يوليو 1952، لكن مازال هذا الشعب الصابر يعانى المرار فى حياته وعلى كل المستويات. كان من أكبر عيوب ثورة يناير عدم وجود قيادة لها، قيادة لها برنامجها الخاص فى إدارة شئون البلاد، فأصبح كل من هب ودب يرى أنه صاحب الثورة ومفجرها، وكل فصيل يرى أنه الأحق بأن يكون "حادى" المسيرة وسائقها أيضًا، وأنه الأحق بقيادة المسيرة الثورية، وظلت الأمور من سيئ إلى أسوأ حتى أضحى البلطجية والمخربون المأجورون يتصدرون المشهد الثورى، ومن خلفهم قوة دفع إعلامية رهيبة، تقدمهم للعالم على أنهم "ثوار"، وأنهم أحق بحكم البلاد، ومن اختارهم الشعب من خلال انتخابات حرة نزيهة لا يصلحون!!. وازداد المشهد عبثية بعد فتح الباب للمرشحين الرئاسيين، فتقدم للترشح بعض رموز النظام الفاسد الذى بسببه قامت الثورة، منهم من كان عضوًا بالحكومة أو رئيسًا لها، ومنهم من كان على دكة الاحتياطى ينتظر "نظرة رضا" من رأس النظام الفاسد، يهلل ويصفق لكل ما يقول ويبارك كل ما يفعل، ثم بلغت المأساة ذروتها حينما تقدم للترشح اثنان من أقوى تيارين سياسيين إسلاميين فى مصر، وهما صاحبا الأغلبية فى البرلمان، وهما أيضًا صاحبا القاعدة الشعبية الأقوى. سلبيات وجود مرشحين إسلاميين لا ينصرف فقط إلى نقطة تفتيت الكتلة الشعبية العريضة التى سوف تؤيدهم، لكن أرى أن ضررها الأشد هو فقدان مصداقية هؤلاء لدى الشعب، ولدى كل المراقبين داخل وخارج مصر، فأيهما الأصدق؟، ومن منهما الأقدر؟ ومن منهما سوف يكون معبرًا عن حلم الملايين الذين يشتاقون لحكم ديمقراطى يغسل معاناة آلاف السنين من القهر والهوان؟. من منهم قادر على إصلاح أحوال 25 مليون مواطن يعانون من الفقر، و15مليونًا لا تكفى دخولهم لسد احتياجاتهم، وأكثر من 5 ملايين يعانون من فقر مدقع ، و8 ملايين متعطل، (وهذه الأرقام حسب إحصاءات المعهد القومى للتخطيط)، وقادر على استعادة المليارات التى ضاعت فى مشاريع فاشلة لا جدوى منها، مثل مشروع توشكى، وترعة السلام، وفوسفات أبو طرطور، وكذا المليارات التى أنفقت على زرع خرسانات فى الساحل الشمالى، لكى يقضى بها وجهاء البلد عدة أسابيع كل عام، وأيضًا المليارات التى تم تهريبها من مصر عيانًا بيانًا؟!. ليس هناك من بين المرشحين مرشح واحد عرض برنامجًا محددًا يتضمن آليات مقنعة للنهوض بهذا البلد، وكلهم يتحدثون كلامًا مرسلاً مثل رواد المقاهى، من عينة: مصر أحسن دولة، مصر أقوى من أمريكا، كل مصرى ها يعيش باشا، ها نعيش بكرامتنا، ها نحقق كل أحلامنا ... إلخ من عبارات إنشائية لا طعم لها ولو لون، تمامًا مثل الذى يحلم ب"كشك" سجاير ومثلجات، لا يستطيع أكثر من مناولة السلعة للزبون الذى يدفع له ثمنها، لكن هذا "الكشكجى" من المستحيل أن يعرف كيف تدار المؤسسات التجارية الضخمة، والمؤسسات متعددة الجنسيات، وهذا هو الفرق بين مرشحينا ومرشحى الرئاسة فى الدولة العظمى.، هم يتكلمون فى برامجهم عن دولة مؤسسية، ونحن مازلنا ندير بأسلوب كشك السجاير. كلمة أخيرة: سأنقطع عن قرائى الأعزاء الأسبوعين القادمين بسبب تواجدى فى الأراضى الحجازية المباركة لأداء العمرة، وأسأل الله أن يكتبها لكم جميعًا. [email protected]