واقعة الهجوم على متحف اللوفر في باريس والتي قالت التحقيقات القضائية الفرنسية أن المتهم فيها مواطن مصري مقيم في الإمارات تكشف عن دلالات مهمة للغاية في دراسة الظاهرة الإرهابية وطرق انتشارها والمؤثرات في توسعها وأيضا في فاعلية جهود احتوائها والتصدي لها . الشاب المصري المتورط ، حسب التحقيقات الفرنسية ، في العملية الإرهابية هناك عبد الله الحماحمي ، غير مسجل لدى الأجهزة الأمنية المصرية ، ولم يكن له سجل سابق إجرامي أو سياسي ، بما يعني أن نشأته التعليمية والثقافية كانت طبيعية وبعيدة عن أي جماعات أو منظمات سياسية ، دينية أو غير دينية ، كما أن أسرته أبعد ما تكون عن شبهات التطرف والغلو ، فوالده لواء شرطة سابق في قطاع الأمن المركزي ، وشقيقه ضابط شرطة ما زال في الخدمة ، وبالتالي فلم تكن هناك روافد أسرية أو مؤثرات تعليمية أو ثقافة أسرية تدفعه للتطرف ، بل يمكن تصور العكس ، كما أن الشاب من الواضح أنه كان متفوقا دراسيا ، وأنه حصل على فرصة عمل جيدة جدا في إمارة الشارقة بالإمارات ، وكان موضع ثقة من مسئولي عمله ، وكان يكلف بمتابعة أعمال لشركته في عدد من البلدان ، مثل تركيا والسعودية وغيرها ، وأنه بحسب والده كان في مهمة عمل في فرنسا عندما تم إطلاق النار عليه بمتحف اللوفر . اللافت في الواقعة أن الشاب كان يقيم في الإمارات لمدة عامين ، وأنه حصل على تأشيرة دخوله إلى فرنسا من السفارة الفرنسية بالإمارات ، وإذا علمنا تشدد الإمارات في إجراءات الرقابة على كل أصحاب التوجه الديني ، وفرضها رقابة صارمة على أي نشاط سياسي خاصة إذا كان معارضا ، مهما كانت سلميته ، والمبالغة المفرطة في مصادرة مواقع ومنع صحف وحظر صفحات وإخضاع أجهزة الهاتف وشبكة الانترنت للرقابة ، فإننا سنكون بإزاء صدمة كبيرة ، عندما نعلم أن هذا الشاب المتورط في العملية الإرهابية كان مناصرا لتنظيم داعش الإرهابي ، وكان يدافع عن مواقفه في صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي ، وقد اطلعت بنفسي على صفحته على "تويتر" ، قبل غلقها ، ونقلت منها عدة تغريدات ، كانت كاشفة عن انتمائه بوضوح ، وفيها تحفز للعنف ورغبة في الانتقام واستعدادات لارتكاب أعمال دموية ، فإذا ضممنا ذلك إلى كون إقامته في الإمارات ممتدة على مدار عامين كاملين ، فسيكون التساؤل مشروعا عن جدوى الجهود الأمنية الإماراتية ، أو توجهاتها ، وهل تستزف طاقاتها في ملاحقة المعارضين السياسيين في الإمارات والبطش بهم مما جعلها تنشغل عن الخطر الإرهابي الكامن في مدنها ، كما أن المعروف أن الإمارات تقدم نفسها في صيغة حداثية منفتحة وبعيدة عن التشدد الديني ووصلت في هذا الطريق إلى أبعاد من التفلت والاستهتار والتماهي مع القيم الغربية لم يقبل بها كثير من المتابعين وحتى مواطنيها ، ومع ذلك أظهر الحادث الأخير أن هذا كله لم يمنع أن تكون الإمارات بيئة خصبة لنمو أفكار التطرف والإرهاب ، بما يعني أن مواجهة الإرهاب لا تكون حتما بالتفلت من الدين ومظاهره والانغماس في القيم الغربية الجديدة بانفلاتها وفوضويتها ، بل ربما كانت محاصرة التدين ونشاطاته من العوامل التي تدعم توجهات التطرف والغلو وتهيئ لهم المناخ . وتبقى الحقيقة الأهم من تأمل هذا الحادث الإرهابي الأخير ، أن الإرهاب والتطرف لا يرتبط بنمط تربوي ثقافي أو ديني أو نظام تعليمي ، بقدر ما يتصل بمناخ سياسي عام محبط أو يفتقر إلى الحريات العامة والشراكة السياسية واحترام إرادة الشعوب أو يمارس فيه القمع والتعذيب للمعارضين على نطاق واسع ، فيفجر موجات من الغضب والكراهية والرغبة في الانتقام يستغلها أمراء الإرهاب والتطرف في تجنيد المزيد من الشباب الغض والمتحمس ويدفع بهم في بوتقة العنف والخراب ، فالشاب عبد الله الحماحمي تغيرت بوصلة تفكيره ومشاعره بزاوية مائة وثمانين درجة خلال عامين أو ثلاثة فقط ، وهو أمر يحتاج إلى تأمل وتحليل واستيعاب .