تأتى الثورة السورية وفق سياقات ثلاثة، لا ينبغى فصل هذه السياقات عن بعضها، ولا تفكيكها ويجب فهمها وفق هذه السياقات: السياق الأول: أنها ثورة عربية جاءت وفق منطلقات كل الثورات التى سبقتها، ثورة على الظلم والطغيان، وتريد تحقيق أبسط وسائل العدل والديمقراطية والعيش الشريف للمواطن، ولكن انعكاسات الحالة، والطائفية والتلاعب غير مسارها لأعلى المطالب. السياق الثانى: أنها ثورة فى منطقة حساسة جدًا، تداخلت فيها الصراعات بين العرب وإيران مثلا، وبين إسرائيل وإيران، وبين إسرائيل والعرب والغرب من جهة ثانية، وهى منطقة الصراع الأمريكى السوفيتى. السياق الثالث: هى ثورة مباغتة وغير متوقعة من شعب ارتخى حد الثمالة، ولم تكن فيه روح تنفخ خيطًا، حتى جاءت اللحظة الحاسمة التى انطلق فيها هذا الشعب وانتفض انتفاضة الأسد، وقلب كل الموازين وفاجأ كل المراقبين، بل إن الدهشة قد أخذت الرئيس السورى نفسه! هذه السياقات الثلاثة خطيرة فى دلالاتها وفى مآلاتها، ولا بد من الالتفات إليها، والتعامل معها بهذه الحساسية وهذا الفهم، لا وفق الفهم الساذج كما يريدنا الغرب أن نفكر فيه، أنها ثورة شعب ضد طاغية. فالثورة السورية تأتى فى سياق تاريخى عصيب بالنسبة للأمة، وتأتى لتغير الخريطة الجيوسياسية للوطن العربى وليس لسوريا فقط، ثم هى تريد تقطيع أوصال إيران وأذنابها، بل تريد تشكيل المنطقة من جديد، بل وأستطيع القول بأنها ستشكل العقل العربى والمسلم مستقبلاً! بادئ ذى بدء، علينا أن نعلم بأن نجاح الثورة يعنى سقوط النظام العربى برمته والنظام العالمى، ولقوة إسرائيل وضعف إيران، كيف؟ ولماذ؟ الملاحظ انقسام النظام العربى على نفسه فى بداية الثورة، بين مصدق ومكذب وبين مؤيد ومعارض ومحارب، وأتى دور الجامعة العربية ليزيد الطين بلة، وليطبق التشتت العربى والضعف العربى حيال القضايا الساخنة التى فى بؤرته! وحتى الذى انتفضوا لنصرة القضية، لديهم حساباتهم الخاصة، وقد لاحظنا ازدياد وتيرة المطالبات بإسقاط النظام بعد إعلان أوباما وتصريحات الأمريكان فى ضرورة تغيير النظام، ثم كان ما لاحظناه من تراجعات كبرى فى التصريحات الغربية، ورفضها القاطع تسليح الثوار. يذكر د.أكرم حجازى فى سلسلته الرائعة (الثورة السورية ومسارات التدويل) ما نصه: (والأطرف هو تعليق الرئيس الأمريكى فى سياق خطابه السنوى عن حالة الاتحاد الأمريكى (25/2/2012) حين قال: « إن أيام النظام السورى باتت معدودة». وقد يبدو التصريح مشجعًا لمن استأمنوا الذئاب على الغنم، خاصة أنه يصدر عن رئيس أقوى دولة، كما أنه يتحدث عن «أيام» وليس «أسابيع» أو «شهور» أو «سنين»!!! لكن التصريح مرّ مرور السحاب، كغيره من عشرات التصريحات، وبقى النظام آمناً وقويًا حتى الآن!!! فهل هو العجز؟ أم الاستهلاك والخداع؟)، وقد تحدث بإسهاب فى الجزء الرابع، بما سماه تسليح الثورة. بل إن صحيفة التايمز الأمريكية ذكرت فى 18/3/2012 ما نصه: (أنه مع استمرار شكوى الثوار من شح الأسلحة وشكوى تجار الأسلحة من نضوبها أيضًا، فإن هذه الثورة معرضة للخطر وأنه بدون وجود اسلحة على الأرض فإن القتل سيستمر)، إذن هناك من يريد إطالة أمد الثورة، والإجهاض عليها بعدم تسليح الثوار، حتى يتسنى لهم وجود البدائل وملء الفراغات السياسية والاجتماعية فى المنطقة، وحتى يستطيع الغرب أن يوجد آلية مرضية للتفاهم مع الثورة والثوار. - تصدير الثورة أو إضعافها:- الثورة السورية كما ذكرنا آنفًا تأتى فى وسط مخيف، ونجاحها يعنى نجاح الثورة العربية، مما سيشجع شعوبًا أخرى للانتقال للحالة الثورية،هذا من جانب، ومن جانب آخر يخشى الغرب أن تنظر شعوبها إلى نجاح هذه الثورات فتتأثر من خلال عملية الدومينو الاجتماعية، لهذا هم يحرصون على عدم نجاحها، وحادثة القمع فى الصين وما جرى فى إسبانيا لهو دليل قاطع على ذلك. - إيران وإسرائيل ومنطقة الشام:- تشكل هذه المنطقة أهمية استراتيجية كبرى بالنسبة لإسرائيل، فهى مزروعة فى القلب، وهى دولة منبوذة من محيطها، كما ذكرنا ذلك فى مقالات مثلث الرعب، فإسرائيل من ناحية يهمها استمرار نظام العلويين الطائفى، لأنها مستفيدة من وجوده فى حماية ذلك الجانب من إسرائيل، ومن جهة ثانية، هو النظام الذى لم يقاتلها منذ 1972، بل هو النظام الذى لم يقاتل فى حرب السبعين، فهى حريصة على بقائه مهما كلف الأمر، ومن باب آخر هى تريد خنق إيران فى هذه المنطقة لإضعافها وتفكيك بنيتها العسكرية النووية لأنها تريد أن تستفرد قوة بالمنطقة، وهى أيضا تريد من إيران أن لا تنافسها فى المصالح الغربيةوالأمريكية بخاصة، وكل هذه تشكل إشكاليات كبرى بالنسبة إليها! أما إيران فإن امتداد نفوذها الجيوسياسى، وتمدد سلطتها على العالم العربى، وتزايد إمكاناتها إنما يأتى من هذه المنطقة الحساسة لها كثيرًا، لهذا هى تقاتل اليوم للبقاء على نفوذها هناك، لأنها تعتبر الوجود الحياة أو الموت! وإيران لا تريد أن تفقد العراق، ولا تريد أن تفقد الشام، لأنهما يشكلان لها طوقًا أمنيًا وبعدًا استراتيجيًا ودفاعيًا وتمدديًا كبيرًا، فهى من خلال العراق تستطيع القبض على مفاصل الخليج وتحمى نفسها من أى تمدد سنى أو عربى، ومن خلال سوريا تستطيع النفوذ فى منطقة البحر المتوسط، ومن ثم القبض على مفاصل النزاع العربى الإسرائيلى والتحكم به، بل والتحكم بالقضية الفلسطينية واستخدامها كورقة متى ما أرادت ذلك. -الصراع الأمريكى الروسى:- يشكل الموقف الروسى تناسقًا مع الحالة الغربية غير المرئية، ولكنه كما خشى أن يخسر كما خسر فى المغرب العربى، فقد خشى الروس (من خسارة مصالح بمقدار 19 مليار دولار، وقاعدة بحرية، وآخر وجود لها فى المنطقة، وبعضها الآخر تحدث عن اعتبارات انتخابية لبوتين، الرئيس المرتقب لروسيا، وبعض ثالث أشار إلى مشروع بوتين القادم، فى سعيه لإحياء روسيا القيصرية، التى اشتهرت تاريخيًا كدولة هجومية توسعية تحتاج إلى موطئ قدم هنا وهناك)(حجازى). و لكن صحيفة التايمز الأمريكية قالت فى 18 مارس: (إن الصراع السورى ليس العامل الوحيد الذى يؤثر على نضوب الأسلحة فى السوق السوداء، بل إن الخوف الدولى من عدم استقرار سوريا التى تعتبر دولة استراتيجية فى المنطقة وهذا التوتر قد يؤثر على دول أخرى عبر حدودها!) (.algareda.com/2012/تايمز-الأمريكية-تسليح-الجيش-السورى/) كما أكد هذا الخوف وهذا الصراع الحتمى (صحيفة « الجارديان – 8/2/2012» بصيغة أخرى حين قالت: «أكد المسئولون الروس سرًا لقادة المعارضة أن النزاع مع الولاياتالمتحدة وليس معهم»!)، هكذا دون مراعاة للدماء والأعراض والأطفال والشيوخ، إنما الصراع صراع بين الكبار، ولا يهم ماذا يحدث للصغار، بل على الصغار تحمل وتقبل جرائم الكبار! إن المنطقة ستغدو منطقة صراع كبير، لا نشك فى ذلك، وستجر المنطقة العربية والإسلامية للمشاركة فى هذا الصراع فالجميع طرف منه، وهى منطقة تغلى من تحتها ولا يمكن أن تهدأ إلا بقتل الشعب السورى برمته، واستبداله بشعب آخر، وذلك ما لا يمكن أن يكون، لأن الشعب قد صمم على اللعب مع الكبار، وعلى حماية أرضه، بل وارتضى أن يحارب بالوكالة عن أمته! -الدور العربى والإسلامى:- لا يمكن أن نعول على الحكومات العربية الدائرة فى الفلك الغربى والمحققة للمصالح الأمريكية فى المنطقة، ولكن التعويل على الشعوب أو لا، وعلى الحركات الإسلامية ثانيًا، ومن هنا نقول إن على هذه الشعوب أن تعى ما يدور أمامها، وعلى ساحاتها، وفى أرضها، وعليها أن تفقه الدور الإسرائيلى والغربى والإيرانى فى هذا السياق، ولا تعيش مغفلة أبدًا، وذلك لا يكون إلا بالتضامن والوحدة والوعى. وعلى الحركات الإسلامية فيما بينها، أن تمد يدها للتيارات الإسلامية بالتآلف والتنسيق والعمل المشترك، وعليها أن لا تتعامل مع هذا الحدث الخطير بهذه السذاجة المتناهية والبراءة الفائقة، فالعدو شرس خبيث، والأمة يراد لها مخطط رهيب، لهذا على الحركة الإسلامية مواجهة كل هذه المخططات بنشر الوعى والإحصائيات الدقيقة وبث المعلومات والتعاون اللوجستى والجيوسياسى والثقافى، والوعى الاستراتيجى لهذه المرحلة الانتقالية للأمة، كما عليها محاربة الغرب فكريًا وعقديًا، وقبل ذلك تنظيم الصفوف، وبث روح الجهاد والدعوة، والاعتماد على الله وحده بعد التخطيط الدقيق والفهم الصافى العميق، عندها ستفلت أمتنا من قبضة الاستعمار وستغدو لحياة أفضل ولمستقبل إسلامى باهر. • مفكر كويتى