قال موقع "جيوبوليتيكال فيوتشرز" الأمريكي، إن تركيا ستشهد مزيد من العقبات الاقتصادية فى الفترة القادمة، نتيجة استمرار تراجع قيمة الليرة التركية، رغم محاولات البنك المركزي التركي للحد من الانخفاض عن طريق رفع الفائدة في ديسمبر وضخ 1.5 مليار دولار في السوق في 11 يناير. وأرجع الموقع، فى تقرير له، تقلّب سعر الليرة إلى ضعف الأداء الاقتصادي في البلاد في الآونة الأخيرة، وقد سبّبت المشاكل الهيكلية للاقتصاد انخفاض قيمة الليرة منذ عام 2009، كما أنه في أعقاب محاولة الانقلاب في يوليو عام 2016، شهدت البلاد عدم استقرار متزايد وتراجع لثقة المستثمر، وكل هذا، مع قوّة الدولار، أدّى إلى هذا الوضع بالنسبة لليرة. وأوضح أنه على المدى القصير، يعني هذا أنّ تركيا ستشهد مزيد من التقّلبات في حين تكافح من أجل إعادة هيكلة اقتصادها السياسي. لكن لن يرتفع هذا إلى مستوى تحدّي ما توقعناه على المدى الطويل بأنّ تركيا ستصبح قوّة كبيرة في الشرق الأوسط. ولكن القوّة المتزايدة ليست سهلة ولا تسير بشكلٍ سلس. ستواجه تركيا اضطرابًا سياسيًا داخليًا خطيرًا، وسيكون عليها إيجاد حلول عاقلة للمشاكل الهيكلية التي تصاحب نضوج قوتها. والمشاكل التي تقابل اقتصادها الآن هي خير دليل على المخاطر التي تحف تلك العملية. والسبب الرئيسي لانخفاض قيمة الليرة هو تراجع ثقة المستهلك. وتتراجع قيمة العملات غالبًا عندما تتراجع ثقة المستهلك في استقرار الاقتصاد، لأنّه إمّا يرى أنّ الحكومة غير قادرة على احتواء التقلبات المحتملة، أو على العكس من ذلك، يرى أنّ الحكومة تسعى للسيطرة بشكلٍ أكبر على الاقتصاد، وهو ما قد يؤدّي إلى تأميم الصناعات. وكلا السيناريوهين يدفعان المستثمر لسحب أمواله من البلاد، وبيع الأصول المقومة بالعملة المحلية، والتسبّب في هروب رأس المال. وتراجعت الثقة في قطاع الأعمال في تركيا منذ عام 2009 إبان الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، بالتوازي مع المشاكل الهيكلية للاقتصاد التركي. لكن في الحقيقة ترجع جذور هذه العملية إلى أزمة انهيار الاقتصاد التركي عام 2001. وبعد الأزمة، أطلق صندوق النقد الدولي برنامجًا للعلاج والذي دفع نحو إصلاح منهجي في تركيا. وأدّى هذا البرنامج بالإضافة إلى رغبة تركيا في الانضمام للاتّحاد الأوروبي إلى مزيد من الشفافية في الموازنة واستقلال أكبر للبنك المركزي وحركة عامة نحو السوق المفتوح. نتيجةً لذلك، بين عامي 2002 و2007، شهدت تركيا نموًا اقتصاديًا سريعًا، حيث توسّع الاقتصاد بمتوسّط سنوي بلغ 6.8 بالمائة، وفي المقابل، كان متوسّط النمو في العقد الأخير 3.5 بالمائة فقط. ومع مواجهة الاتّحاد الأوروبي لتحدّيات في النمو، فقدت عضوية تركيا المحتملة بالاتّحاد الأوروبي جاذبيتها. وفي الوقت نفسه، أصبحت عملية صنع القرار في الحكومة أكثر تعسفًا وزاد الفساد. وتدهورت بيئة العمل الداخلية لأنّ الشركات أصبح من الصعب عليها النجاح دون صلات مسبقة بالحكومة. لكنّ النمو الاقتصادي استمر، مدعومًا على الأغلب بالاستهلاك المحلي. وقد انخفضت معدّلات مدّخرات تركيا، في حين ارتفعت القروض الاستهلاكية. وحوّلت الفائدة المنخفضة الاستثمارات الداخلية المباشرة إلى قطاعات ذات عائدات أسرع، مثل سوق العقارات. وأصبحت العقارات السكنية الجديدة ومجمعات المكاتب ومراكز التسوّق أكثر شيوعًا من المواقع الصناعية في أنحاء البلاد. وزادت في الوقت نفسه القدرة التنافسية للصادرات التركية خلال ال 15 عامًا الأخيرة إلى الدرجة التي جعلت تركيا الآن مزوّدًا موثوقًا به للبضائع الاستهلاكية عالية الجودة، مثل المركبات التجارية وأجهزة التلفاز والأجهزة الكهربائية. لكن يعدّ هذا أيضًا واحد من أسباب تأثّر تركيا سلبًا بالأزمة الاقتصادية العالمية. وتمثّل الصادرات 28 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي التركي، وغالبيتها تذهب إلى السوق الأوروبي. وتعدّ ألمانيا هي أهم شريك تجاري أوروبي لدى تركيا. فهي ليست فقط الوجهة الأولى للصادرات التركية، لكنّها أيضًا مصدر الجزء الأكبر من الاستثمارات الأجنبية في البلاد. وكذلك ألمانيا هي مصدر الواردات الأول لتركيا. وبالنظر إلى موقع تركيا الجغرافي، ووجود اتفاقية للتجارة الحرّة الموسّعة والعمالة منخفضة التكاليف مع تركيا، فإنّ الشركات الألمانية غالبًا ما تفضّل فتح متاجر لها في تركيا، والتي تجمّع فيها البضائع التي تصدّرها فيما بعد إلى آسيا ودول البلقان. كل ذلك يجعل تركيا تتأثر بأي مشاكل اقتصادية في الاتحاد الأوروبي أو في ألمانيا. وقد يساعد انخفاض الليرة تركيا فعليًا، حيث ستصبح صادراتها أرخص. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ مهمة تركيا في إيجاد أسواقٍ جديدة لمنتجاتها لن تكون بالمهمة السهلة، باعتبار أنّ عام 2016 قدّم الأداء الأضعف للتجارة العالمية منذ الأزمة المالية عام 2008، وفقًا للبنك الدولي، وهناك مؤشرات قليلة على تحسّن الأمور في قادم الأعوام. وأصبحت تركيا أيضًا وجهة سياحية بارزة خلال العقد الأخير، حيث كانت، وفقًا للسجّلات، سادس أكبر دولة من حيث عدد الزوّار الأجانب في عام 2014. وتمثّل عائدات قطاع السياحة 12.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي التركي و8.3 بالمائة من عدد الوظائف في البلاد. ومع ذلك، كان عام 2016 هو الأسوأ للقطاع. فبعد إسقاط تركيا لمقاتلة روسية انتهكت مجالها الجوي في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015، أمر الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» الروس بقضاء إجازاتهم في أماكن أخرى، الأمر الذي قلّص عدد السياح الروس إلى تركيا بنسبة 95 بالمائة من بين 4.5 مليون سائح روسي يزورون تركيا سنويًا. وساهمت أيضًا الظروف المحيطة بمحاولة الانقلاب الفاشل وزيادة النشاط الإرهابي في تراجع السياحة. وللقطاع تأثير مباشر على الليرة، فكلّما زاد السياح زاد الطلب على العملة، وهو ما يؤدّي بدوره لارتفاع قيمة العملة. وبالأخذ في الاعتبار تحسّن العلاقات مع روسيا، قد يشهد قطاع السياحة في تركيا مكاسب في العام القادم. ولكن بالنظر إلى المشاكل الاقتصادية الحالية في روسيا، فالتوقعات على المدى الطويل ليست متفائلة. وقد قاد الاستثمار القوّة الدافعة للاقتصاد التركي خلال ال 15 عامًا الماضية. وأتت غالبية الاستثمارات الأجنبية من أوروبا. وانخفضت الاستثمارات بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت أوروبا، الأمر الذي صاحبه تراجعًا في طلب المستهلك، ولم تجد الشركات الكثير من الأسباب لزيادة استثماراتها، وخاصةً في الدول الأجنبية. ودفع البطء العالمي الشركات للتركيز على عملياتها الداخلية والحدّ من عمليات التوسّع. وكذلك تسبّبت محاولة الانقلاب واندفاع الرئيس رجب طيب أردوغان لتعزيز سلطته في إثارة مخاوف المستثمرين. فمحاولات الحكومة لتعزيز سلطتها يعدّ دليلًا على زيادة المخاطر السياسية. والمستثمرون قلقون أيضًا بشأن البيئة الأمنية، ويدفعهم ذلك لمغادرة البلاد، الأمر الذي يضع ضغطًا أكبر على الليرة. وسيتوقّف المستثمرون عن الرحيل وسيعودون حين يشعرون أنّ البيئة التجارية أكثر استقرارًا. ومحليًا، تكافح تركيا حاليًا على جبهات متعدّدة. ومن منظورٍ سياسي، مرّ أقل من عام على محاولة الانقلاب، ويحاول أردوغان تمرير تعديلاتٍ دستورية من شأنها تعزيز وترسيخ قبضته على السياسة التركية. ومن منظورٍ اقتصادي، لدى تركيا حاليًا مساحة قليلة من المناورة، على الرغم من أنّ انخفاض قيمة العملة قد يوفّر لها ميزة تنافسية لصادراتها. وحتّى مع ذلك، لا يوجد سبيل ميسر لتركيا للتغلّب على هذه التحدّيات السياسية والاقتصادية. ولن تملأ دول الشرق الأوسط فجوة الطلب، وبدلًا من ذلك ستبقى هي المصدر الأول للمخاطر الأمنية. وعلى الأرجح ستجلب العلاقات الجيدة مع روسيا منافع على المدى القصير فقط. ويبقى الرهان الأوفر حظًا على الولايات المتّحدة في كلًا من التجارة والاستثمار، بالأخذ في الاعتبار الاستقرار النسبي للولايات المتّحدة. ومن المطلوب أيضًا وجود بيئة أمنية واجتماعية مستقرة، والقول في هذه المسألة أيسر من الفعل. ولا تعدّ هذه الصعوبات مفاجئة ومؤثّرة على قوّة تركيا على المدى القصير، لكن يمكن النظر إليها أيضًا كخطوات، وإن كانت صعبة، في طريق نضوج تركيا كقوّة كبرى في المنطقة. وتعبّر التوقّعات عن صعوبات بالنسبة لتركيا على المدى القصير، لكن على المدى البعيد، فموقعها الجيوسياسي يبقى قويًا نسبيًا.