تفاصيل الهروب عبر حدود السودان: : "نمنا في الصحراء لأيام وتسلقنا الجبال ورأينا غيرنا يموتون قبل الوصول إلى مصر" الخوف من الاعتقال والترحيل وانتقام النظام السورى بقتل الأهل يسيطر على الكثيرين من سكان "بيت العيلة" وحدات سكنية بمساحات تتراوح بين خمس وأربعين وستين مترًا فقط، ملاصقة لبعضها البعض أو مطلة على جبال وأراض صفراء جرداء، استبدل بها السوريون فى مصر منازلهم ذات المساحات الكبيرة الرحبة والفناء المتسع الذى تترامى أطراف نباتاته على الأسقف والجدران، وتزكم روائحها الطيبة أنوف الجالسين داخلها والمارين بها، ربما تكون هذه أول ملاحظة ترصدها عيون المهتمين بأوضاع السوريين فى مصر خصوصًا مع الصور الذهنية التى شكلتها الدراما السورية المتدفقة حاليًا على شاشات التليفزيون . فعلى مشارف"المرحلة الثانية" من مشروع "بيت العيلة" السكنى فى مدينة 6 أكتوبر، تتجمع أكثر من 600 عائلة سورية، نزحت من وطنها فرارًا من مواجهة الموت، ومن الحرب الدائرة بالساحة السورية، التى قضت على الأخضر واليابس ودكت منازلها دكًا، ورغم آلام الفقد والغربة التى تسكن هذه المنازل وكذلك الآثار النفسية الناتجة عن مغامرات الهروب عبر الحدود السودانية المليئة بالمخاطر والمشاق.. إلا أنك لن تسمع منهم عند سؤالهم سوى إجابة واحدة هى:"يكفينا الشعور بالأمان". فمع سخونة ودموية الأحداث الأخيرة فى حلب، اشتد إقبال السوريين على الهجرة عبر الحدود السودانية، حتى اختاروا أن يواجهوا مخاطر الموت على الطريق بأبشع الطرق، وكذلك الاعتقال من قبل السلطات المصرية وهم يحاولون اللجوء إلى مصر بطريق التهريب عبر الحدود السودانية، خصوصًا مع التضييق على استقبالهم منذ ما يزيد على العامين وتحديدًا بعد عزل الرئيس الإخوانى محمد مرسى، واتهام كثير منهم بالمشاركة فى أعمال عنف ومظاهرات مؤيدة للجماعة ومناصرة لأفكارها.
الفارون من "حلب" داخل أحد منازل مشروع "بيت العيلة"، التقينا بأسرة احتفلت لتوها بسلامة ابنتيهما ووصولهما إلى مصر بعد هروبهما من حلب "تحت الضرب" بحسب وصفهما، واللتان روتا لنا ما لقيتاه من تعب ومخاطر فى طريقهما إلى هنا عبر الطريق الذى أسموه ب"طريق الموت"، وهو الطريق الذى بدأ من مدينة "حما" الملاصقة ل"حلب" مرورًا بدولة السودان ثم دخول مصر عن طريق محافظة أسوان، لتستقلا أخيرًا قطار "أسوان- القاهرة" ومنه إلى حيث تتواجد عائلتهما بأكتوبر. تحكى "سارة"، ابنة ال19 عامًا، رحلتها مع شقيقتها "هدى" والتى تكبرها بعامين، تفاصيل ما أسموها ب "رحلة الموت"، بالتزامن مع القصف الأخير فى مدينة "حلب"، من أجل الزواج من أبناء خالتهما "أم شهاب"، لينقذوهما من وطأة الحرب هناك، قائلة:"خرجنا من سوريا من مطار "الشام" إلى السودان، وبعد وصولنا استقلينا سيارة لمدة 8 ساعات وتعطلت بالصحراء السيارة، مما اضطرنا للبقاء والنوم على رمال الصحراء لمدة يومين إلى أن تمكننا بعد تعب شديد من استقلال أخرى. وبصوت مجهد وعيون مثقلة بمشاهد القصف والقتلى والدماء التى تسيل بين الطرقات، أكملت "هدى" تفاصيل رحلة وصولهما إلى القاهرة، لتقول: "استقلينا سيارة سوزكى إلى أن نزلنا بالطريق لنصعد جبلاً شاهقًا بذلنا فى صعوده مجهودًا شاقًا حتى أننا اضطررنا إلى إلقاء حقائبنا وما كنا نحمله من ملابس لنتمكن من الصعود بوزن أقل.. "كانت صعبة علينا كتير حتى نصل إلى الناحية الثانية"، ووصلنا إلى أسوان مستقلين قطار القاهرة وأخيرًا وصلنا إلى هنا". "موتى فى الطريق" بينما يقول محمد الأكحل، 70 عامًا، إنه اضطر إلى أن يسلك "طريق الموت" هو وزوجته المسنة كذلك ليهربا من المجزرة التى اشتدت فى مدينتهما الملاصقة لحلب، والتى كانت قد بدأت آثارها فى الامتداد إليها، مؤكدًا أنه دخولهما إلى مصر لم يكن ليتم سوى بهذه الطريقة لأن الطريق الشرعى إلى هنا بات مستحيلاً مع الحالة المادية المتردية التى يعيشها ملايين السوريين بعد اندلاع الحرب فى بلادهم . وكشف الأكحل، أن بعض أقاربه ومعارفه اضطروا لتقديم رشوة وصلت إلى ثلاثة آلاف ونصف دولارٍ أمريكى لتسهيل دخولهم عبر الطريق الشرعى، تفاديًا لموتهم بالطريق أو اعتقالهما وهما مسنان ولا يحتملان مشقة الطريق، بينما لم يكن أمامه هو وزوجته سوى الهروب عبر السودان لأنهما لا يستطيعا دفع هذا المبلغ رغم كبر سنهما وحالتهما الصحية السيئة. وتقول زوجته أم باسم: "كيف بدنا نعيش وسط الضرب والقتل وكل يوم حدا من أهلنا بيموت؟ .. ممنوع علينا دخول مصر إلا بطريق الموت هاد .. كتير تعبنا أنا وأبو باسم وكنا راح نموت أكثر من مرة ع الطريق وشفنا ناس ماتت على الجبال وما قدرت تكمل" ووجهت حديثها للسلطات المصرية: "افتحوا لنا الطريق الشرعى وخلونا نجيب أهلنا اللى بيموتوا كل يوم وما بنعرف عنهم شيء". "بس تخلص سوريا" واجهنا فى طريقنا للبحث عن العائدين من طريق الموت هربًا من مجزرة حلب صعوبة شديدة فى إقناعهم بالحديث معنا، فهم يخشون إلقاء القبض عليهم وترحيلهم إلى سوريا أو انتقام النظام منهم إن هم تحدثوا بسوء عنه ووصفوا سوء حالهم فيقتلون أهلهم الذين لا يزالوا فى سوريا، وهو ما أكدوا وقوعه بالفعل معهم ومع غيرهم حين تحدثوا لوسائل الإعلام من قبل. لكن المأساة التى يعيشها السوريون لم تقف عند حدود الحرب هناك ورحلة الهروب منها، فبداخل كل منهم مأساة متفردة، حتى وإن تشابهت مع غيرها من حيث الألم والأثر، وعلى الرغم من ذلك فلم نسمع منهم سوى: "حالنا أفضل من غيرنا، الشعب السورى والشعب المصرى واحد، يكفينا الشعور بالأمان بعد ما كنا نواجه تحت القصف والحرب، فقدنا ديارنا وأهالينا لكننا لا نملك أن نقول سوى الحمد لله، سنعود بس تخلص سوريا"، فبهذه الكلمات عبر عدد منهم فى حديثهم مع "المصريون"، عن أحوالهم المعيشية فى مصر، آملين فى أن تفتح السلطات المصرية الطريق للهجرة الشرعية بديلاً عن طرق الهروب الدامية التى يضطر لها السوريون للفرار من الحرب عبر السودان، كذلك أن يسمحوا بجلب باقى أسرهم وإنقاذهم من أهوال الحرب . وعلى بعد أمتار من بوابة تجمع "المرحلة الثانية" السكنية، يقف شادى وهو طفل فى العاشرة من عمره، ترك بلدته "حما" منذ 4 سنوات، بابتسامة رقيقة تخفى وراءها الكثير من الكلمات، وخلال حديثنا معه قال بثقة: "ستنتهى الحرب فى سوريا.. أحلم بعودتى إلى هناك.. بس تخلص سوريا برجع عليها". " ذاكرة الدماء" أما "يوسف"، فكان يقف أمام المبنى الموجود به منزله، بعد عودته من المدرسة، حيث يدرس بالصف الثانى الإعدادى، بادلنا التحية بابتسامة قلقة، ثم تطور الحديث معه ليخبرنا عن صورة مصغرة لما رآه فى مدينة "حما"، التى خرج منها منذ 4 سنوات، فرارًا من الحرب هناك، متذكرًا مشهد موت شقيقه الأكبر منه بثلاث سنوات، إثر انفجار لغم أثناء لعبهما سويًا أمام منزلهم. ويستكمل "يوسف": " فى سوريا أشخاص كثيرون يتساقطون موتى واحدًا تلو الآخر ولا يجدون من يحملهم من على الأرض.. لقد رأيت ذلك كثيرًا بعيني". وبنبرة يائسة، أعرب يوسف، عن أمله فى العودة إلى منزله بسوريا، قائلاً: "نفسى ارجع سوريا .. بس إذا بترجع سوريا". "وجع كبير" أما خالة يوسف وهى أرملة ولديها شابان، أحدهما متزوج و آخر لم يستطع استكمال دراسته نظرًا لصعوبة تسجيله بالجامعات المصرية ولارتفاع مصروفات الأوراق الرسمية المطلوبة لاعتماده بها، فتقول:"اضطر محمد لترك دراسته بالجامعة واشتغل فنى تكييف وتبريد.. بعد ما كان بكلية التجارة والاقتصاد.. كل يوم أتطلع إليه وهو راجع من شغله وثيابه متربين بعيط عليه لكن ما بأيدينا شىء وإللى معانا بنسد بيه جوعنا وبنسد ديونا". وتصف لنا الخالة ممرضة بإحدى مستشفيات"حما"، ما رأته خلال فترة عملها من مشاهد مأساوية تدمى القلب، قائلة: "حوصرت بالمستشفى لمدة 10 أيام فى أول ضرب تعرضت له مدينة حما فى 2012.. شفت حاجات كتير ومناظر لدرجة أنى خرجت تحت الضرب فى الشارع لأوصل لبيتى .. شفنا كتير ووجعنا كتير". وتصف"أم شهاب"، فى حديثها معنا منزلها الريفى بسوريا، والمقام على مساحة شاسعة ويضم حديقة شاسعة بها أشجار الليمون والبرتقال والعنب وكل ما تشتهيه موجود بها. " النظام كتير غلطان" وفى الواجهة المقابلة لها، تسكن سيدة مسنة مع ابنها فى العقد الأربعينى، والتى جاءت من مدينة "الهامة" بريف دمشق، منذ 4 سنوات مع أول ضرب تعرضت له المدينة والتى وقع فيها 42 قتيلاً – بحسب قولها- لتخرج إلى لبنان وتقيم شهرين ومن بعدها وصلت إلى مصر بعد أن استقدمها نجلها. وتكمل "أم آدم" حديثها، بصوت يغالبه الحنين والشوق إلى مدينتها، قائلة: "الهامة كانت مثل الجنة إللى يفوت عليها كان بيحس إنه فايت على الجنة"، وتستأذن أم باسم مقاطعة حديثها لتكمل إعداد طعامها والذى كان عبارة عن "برغل بالفول" إحدى الأكلات السورية المعروفة. واختتمت حديثها معنا معلقة على ما يجرى بسوريا، قائلة: "أنا عامية ما أحسن شىء فى السياسية، ولكن النظام السورى كتير غلطان". "لو بيحطونى بالجنة بقلهم أرجع بلدى" وفى منزل مجاور، يجلس "أبو حسين السوري" وهو رجل فى العقد الستين من عمره، أمام شاشة التلفاز متابعًا ما يجرى فى حلب، وما يتعرض له باقى أهله وذويه الذين حالت الظروف دون وصولهم إلى مكان آمن بعيدًا عما يجرى هنا. ويسترجع معنا "أبو حسين"، قصة خروجه من مدينة "دمشق" والتى تبعد 2 كيلو متر عن الشام، بكلمات غاضبة "أنا مش عجبنى شىء .. أسب على النظام أسب على الحكومة.. شىء بدى أقلك فقدت 3 من أولادى شبان فى الحرب على سوريا بعد اعتقالهم وقتلهم"، وصلت إلى مصر عن طريق مطار بيروت ومنه إلى مصر . بصوت متهدج يقول"أبو حسين": "رأيت صورهم على التليفزيون ولا أملك سوى قول حسبى الله ونعم الوكيل"، مضيفًا لم يتبق لى سوى "إياد" يدرس بكلية الصيدلة جامعة عين شمس، وشادى يدرس بالمرحلة الثانوية، وثناء التى اضطرت للنزول سنتين دراسيتين حتى تتمكن من استكمال تعليمها بالمدارس المصرية بعد وصولها لمصر. وعن الحرب الدائرة بسوريا، يعلق "أبو حسين" قائلاً: الحرب بين الشيعة الذين يقاتلون السنة.. والقوات المتناحرة تستخدم المدنيين كدروع بشرية.. وأولادنا كانوا يجبرون على قتال إخوانهم من السنة.. الذين يتعرضون للسب والطعن فى العقائد الإسلامية الثابتة ويقتلون فهم عقليات متخلفة فنحن نؤمن بكل الأنبياء والرسل. بدموع حبيسة يسترجع صورة منزله بدمشق ليصفه لنا بنظرات يملأها الحنين والشوق إلى مسقط رأسه وعائلته وجيرانه وذويه: " بنيت بيتى على مساحة 180مترًا وهو يضم حديقة مليئة بالزهور والنباتات وأنواع عديدة من الفاكهة وتتوسطها "النافورة" كنا نعيش وننعم فى ديارنا وبين أهالينا ولكن ما فى غير قول الحمد لله". وأكد أن الظروف المعيشية خلال هذا العام صعبة، مضيفًا: "لو بيحطونى بالجنة بقلهم بدى أرجع بلدى بين أهلى فكل إنسان يريد أن يعود لوطنه وأرضه ولكننا خرجنا مجبرين". ويستكمل: "بقعد فى البيت ما بيفيد بزعل وبعيط ما بيفيد.. ولكنى خرجت أعمل و بمشى أمورى.. كنا محرومين من أمور كتير ولكن فى مصر الأحوال تتحسن تدريجيًا". "عقاب وانتقام" يدق جرس الباب، لتدخل زوجة "أبو حسين"، حاملة فى يدها الطعام والدواء لابنتها والتى عانت كثيرًا حتى وجدته، لتقول لنا: "تأخرت كثيرًا حتى وجدت دواء تحتاجه ابنتي" وتروى لنا قصتها المأساوية قبل فرارها مع زوجها إلى مصر: "فقدت ابن أخى فى الحرب واعتقلوا أختى 40 عامًا وابنتها وابنها أيضًا عقابًا لنا لأن ابننا الأول رفض قتال إخوانه السوريين واستشهد على يد قوات بشار الأسد". وتستطرد قولها: "وصلنا إلى مصر منذ أربع سنوات وتركنا كل شيء هناك منازلنا وممتلكاتنا وأهالينا تخلينا عن أشياء كثيرة وتبدلت أحوالنا للنقيض تمامًا.. ولكن وجدنا الأمن والاستقرار بمصر ومعاملة طيبة من أشقائنا المصريين". وعن تدبير نفقات المنزل كربة بيت بعد ارتفاع الأسعار الذى تشهده مصر حاليًا وخصوصًا مع وضعهم الاستثنائى تقول: "مثلنا مثل المصريين مضغوطين، لكن بندبرها وبنرضى بأقل شيء بعد أن كنا نلبس أفضل الملابس ونأكل أطيب الطعام فى بلدنا" . سخرية "التلامذة" وتحكى لنا ثناء ابنة ال15 عامًا عن الصعوبات، التى تواجهها فى مصر، وهى تدرس بالمرحلة الإعدادية قائلة: "أتعرض للسخرية من بعض زملائى بالصف من طريقة لبسى ولهجتى، حتى أنهم يتهموننا كسوريين بأننا احتلينا بلدهم ونأكل أكلهم لا يحق لنا الحديث عن أى شىء بالمدرسة، موضحة أنها تلتحق أيضًا بمدرسة سورية بجانب المدرسة المصرية حتى تحصل على شهادة معترف بها بعكس المدارس السورية غير المعترف بها، ولكنها منتظمة فيها حتى تستطيع فهم المناهج المصرية". بنبرة يائسة، أجابت "ثناء" عن حلمها والمهنة التى تحلم بالعمل فيها، قائلة:"أتمنى أن أصير مرشدة نفسية مثل مدرستى بسوريا، وتعاود فى حديثها: ولكن كيف لى أن أحقق حلمى فى ظل ظروفى الصعبة فى استكمال دراستى وصعوبة المناهج التى لا أحسن فهمها وتختلف تمامًا عما كنت أدرسه فى سوريا"؟.