نكرر ما سبق لنا أن نبهنا عليه عدة مرات، من أنه من غير الصحيح أن العالم قد أقلع عن الحروب تمامًا، خاصة ونحن ما زلنا نتذكر مقولة السادات من أن حرب أكتوبر 1973 هى آخر الحروب، حيث إن الحرب لم تعد تقتصر على المعنى الشهير القائم على استخدام الطائرات والمدافع والقنابل والصواريخ، وما يجرى مجرى هذا وذاك، وأصبحت اليوم حروبًا أكثر خطرًا ودهاءً، ويأتى فى مقدمتها حروب التعليم، أى سعى القوى المهيمنة إلى فرض أفكارها وقيمها، والمحافظة على مصالحها ومن ثم تسيد العقول والتحكم فى منظومة المفاهيم والقيم والاتجاهات، وربما ما هو أشد خطرًا: الهوية القومية. ومن هنا إذا كنا قد عرفنا طوال التاريخ حروبًا "ساخنة"، وإذا كنا قد شهدنا، وقت وجود منظومة الدول الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفيتى سابقًا، "حربًا باردة"، فها نحن اليوم نشهد هذا الشكل الجديد الذى يصح تسميته ب"الحرب الناعمة"!! ولعل من أقوى الأدلة على هذا، تلك الدراسة الخطيرة التى كتبها الدكتور عصام عبد الشافى فى ذلك التقرير المهم والخطير، الذى صدر عن مجلة البيان، بالتعاون مع المركز العربى للدراسات الإنسانية بالقاهرة، وهو التقرير الثامن لعام 1432ه. وكنا قد كشفنا عن جزء من هذه الدراسة فى مقال لنا على صفحات جريدة الحرية والعدالة، يوم 13 فبراير الماضى، واليوم نكشف عن جزء آخر لا يقل أهمية وخطورة. فما فتئت الولاياتالمتحدة تبذل الكثير سعيًا إلى احتلال العقول والقلوب المصرية، من خلال "الحروب الناعمة"، والتى أسلحتها مفاهيم وقيم واتجاهات وميول ومعلومات، ومنها كتب ومناهج تعليم ومعاهد دراسية، بمستويات مختلفة. ويسوق الدكتور عصام نموذجًا لذلك ما تقوم به الجامعة الأمريكية بالقاهرة، مثل: إطلاق برنامج جديد بالتعاون مع الجامعة الأمريكية بالقاهرة ومركز الوليد بن طلال، لدعم التقارب بين العرب وأمريكا، ويقضى بتقديم منح للطلاب العرب للدراسة بالجامعات الأمريكية وطلاب من أمريكا للدراسة بالقاهرة. قيام هيئة المعونة الأمريكية بالقاهرة بعمل برنامج أمريكى جديد يهدف إلى منح مزيد من الطلاب المصريين والعرب منحًا للدراسة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بمعدل اثنين من كل محافظة، بشرط أن يكونوا من خريجى المدارس الحكومية، ومن جميع المحافظات المصرية، وذلك من أجل التواصل مع الشعب المصرى، كما يزعمون. التوسع فى الدور الذى تقوم به الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وفقد مخطط يستهدف تحويل هذه الجامعة إلى أبرز مراكز التفكير والثقافة فى الوطن العربى، وذلك بمزيد من التوسعات المادية المتمثلة فى المبانى، وتكثير عدد الكليات التى تغطى تخصصات متعددة يمكن أن تستوعب الرغبات المختلفة، والتوجهات المتعددة، فضلا عن فتح الأبواب لاستضافة عدد مهم من رموز الفكر والثقافة لإلقاء محاضرات عامة، تجذب مزيدًا من الجمهور، بالإضافة إلى بث ثقة عن طريق الإيهام، بأن الساحة التعليمية الأمريكية مفتوحة لكل التوجهات. التعاون من أجل إنشاء المزيد من المراكز العلمية متعددة الأغراض، مختلفة الوسائل والتقنيات، ومثال ذلك: المركز الدولى للتعليم عن بعد بالقاهرة، والذى يمكن اعتباره نقطة اتصال بالشبكة العالمية للتنمية، والتى أنشأها البنك الدولى للإنشاء والتعمير، بالتعاون بين هيئة المعونة الأمريكية للربط بين خمسين دولة بإفريقيا وأمريكا وأوروبا وآسيا، من أجل تبادل الخبرات بين هذه الدول عن طريق ندوات وورش عمل تخاطبية، باستخدام الفيديو كونفرانس، وتبادل الخبرات المتصلة بقضايا التنمية، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية، وهذا يعين على توفير البيئة التكنولوجية اللازمة لتعريف المشاركين بمكونات تقنيات المعلومات الحديثة ودعم أنشطة نقل المعرفة من الدول المتقدمة إلى المنطقة العربية. تقديم المساعدات المالية المباشرة، وأبرز الأمثلة على ذلك ما قدم تحت مسمى تطوير كليات التربية، من خلال 12 مليون دولار أمريكى، فى أوائل العقد الأول من الألفية الثانية. وللقارئ أن يتساءل عن مغزى تركيز الجانب الأمريكى على تطوير كليات التربية، ولم يفكروا فى تطوير كليات الزراعة أو الهندسة أو الطب، أو غير هذه وتلك؟ لسبب بسيط: أن تطوير هذه الكليات سيشكل إضافة حقيقية للتقدم العلمى والتقنى فى مصر، ويسهم فى دفع عجلة الإنتاج، وهو الأمر الذى يستحيل أن يكون مُرادًا للأمريكان، أما كليات التربية، فيؤدى العبث بها تحت مسمى التطوير إلى الولوج إلى عقول عشرات الألوف من المعلمين، الذين يقومون بدورهم بتشكيل عقول ملايين أبناء المصريين! وقد سبق أن كتبنا عدة مقالات فى حينها، عن صور التخريب التى تعرضت لها كليات التربية، وللأسف الشديد تم ذلك بالتعاون مع أساتذة تربية نسوا وطنهم وبردت ضمائرهم، عندما تدفأت محافظهم وجيوبهم بأموال لا يدقق فى شأنها عالم دين مخلص لحكم بأنها أموال حرام!! وهناك أيضا البرامج التعليمية الموجهة، والتى من أهمها برنامج عالم سمسم التعليمى، بمساعدة دعم واشتراك من التعليم المصرى والإعلام والتليفزيون والمجتمعات الفنية، بالإضافة إلى تعاون وزارتى التعليم والإعلام وبمنحة مقدمة من هيئة المعونة الأمريكية. أما ما حدث بالنسبة للتعليم الدينى وتعليم الدين، فقد كانا منطقة مهمة للحرب الناعمة الأمريكية، من خلال دعوات لا تقل نعومةً وبريقًا، مثل الدعوة إلى مبادئ التسامح، مستندين فى ذلك إلى حوادث العنف والإرهاب، تصورا أن هذا ما جاء إلا لتلبية بعض التعاليم الدينية التى تحض – كما توهموا- على كراهية الآخر، بل والسعى إلى إقصائه ومحاربته، مع أن تلك المبادئ الخاصة بالتسامح تتأكد بطبيعتها كلما ازداد المتعلم تعلمًا وفقهًا للدين الإسلامى، وهم يتغافلون عن الأسباب الحقيقية لحوادث العنف المسلح، من حيث استشعار نفر من المسلمين بمساندة أمريكا للنظم الديكتاتورية، وتسخيرها دول العرب والمسلمين لكسر إرادة الفلسطينيين، والتذويب التدريجى للأرض الفلسطينية فى الكيان الصهيونى. وهكذا تجد أن كل ما جاء فى القرآن الكريم خاصًا بفضح بنى إسرائيل، يُزاح جانبًا، وفى أحسن الأحوال، يُؤَكد على التلاميذ المسلمين أن ما جاء فى القرآن بهذا القوم إنما يخص أناسًا منذ ألفى عام، ولا ينصرف إلى أعقابهم الحاليين. وهكذا أيضا يخفت صوت فريضة الجهاد تدريجيًا من مناهج التعليم الدينى، حتى ينشأ جيل يتصور أن الجهاد مجرد عنف تجاه الآخرين، مع أن الجهاد صور وأشكال، بحيث لا يقتصر فقط على الجهاد المسلح، وحتى لو كان مركزًا على ذلك، فهو عقيدة أساسية من المفروض أن تظل حية فى النفوس، والعقول والقلوب، لا من أجل الاعتداء بغير حق على الآخرين، بل للدفاع عن أرض الوطن والدين، وحتى نظل مرهوبى الجانب، لا يتعامل الآخرون معنا وكأننا لقمة سهلة المضغ والبلع من قِبل قوى الاستغلال والاستكبار. وهكذا أيضا تم تقديم النصح الأمريكى بألا يتم التركيز على أبطال الحروب والنضال فى مصر، ومن ثم لا يتركز الإعجاب والتقدير فى تلك الأعمال والبطولات التى تعلى من قدر الأمة، وتعزز قيم الكفاح وتقدير الذات الوطنية، والهوية الإسلامية العربية. وهم يسعون إلى كل هذا ناسين أنهم هم الذين جاءوا بجيوش جرارة، منذ أكثر من مائتى عام ليقهروا ويحتلوا ويستغلوا بلاد العرب والمسلمين، وينهبوا ثرواتها، بل واستمروا عدة قرون يشنون علينا ما سموه بالحروب الصليبية، إيهاما بأنها مسنودة بدعوى الدفاع الدينى المسيحى، وهو براء من هذا، مما يفسر مغزى أن المؤرخين المسلمين لم يستخدموا مصطلح (الحروب الصليبية) وسموها (حروب الفرنجة) وعيًا منهم بأن النصرانية يستحيل أن تدعو إلى الكراهية والبغى والغزو، لأن كل مسلم لا يكتمل إسلامه إلا بالإيمان بصدق وصحة رسالة عيسى عليه السلام، ومن ثم فقد كانت هذه الحروب حروب استعمار وقهر واستغلال تحت ستار الدفاع عن الصليب، رمز المسيحية، وهو منهم براء. وأتت الضغوط الأمريكية أُكلها، فرأينا فى اليمن على سبيل المثال اختفاءً للمعاهد العلمية التى كانت تماثل التعليم الدينى الأزهرى فى مصر، تحت دعوى التوحيد بين التعليمين المدنى والدينى، فكانت النتيجة هى إضعاف الثانى، إلى حد ذوبان الأول!! وفى مصر – كما أكد الدكتور عصام عبد الشافى- تعرضت بعض مناهج التعليم الأزهرى للتعديل الذى يرضى قوى الهيمنة الخارجية، مثلما حدث فى المناهج الدراسية، حيث تم حذف مادة الفقه المذهبى من المرحلة الإعدادية، كى يحل محلها ما يشبه المقالات الصحفية، تحت عنوان (الفقه الميسر)، وإلغاء أبواب الجهاد من المرحلة الإعدادية، وإضافة مادة الحديث والتفسير فى الصف الثالث الإعدادى إلى مادة المطالعة والنصوص. وحذف 12 جزءًا من القرآن الكريم فى المرحلة الابتدائية، مع إلغاء السنة الرابعة فى المرحلة الثانوية الأزهرية، وإضافة اللغة الفرنسية لمنهج الصف الثالث الثانوى، مع اللغة الإنجليزية، دون تحديد ساعات دراسية لها، بما يعنى مزاحمتها للمواد الشرعية، التى تم ابتسارها بالفعل واختزال مادة التفسير للصف الأول الثانوى، وحذف تفسير النسفى للقرآن الكريم، وهو الذى يعتمد المنهج العلمى فى تفسير القرآن بالمرحلة الثانوية. إننا لا ندعو من خلال هذا إلى المخاصمة والمقاطعة، فنحن نعى أن عالم اليوم يفرض التعاون والتبادل، لكن هذا وذاك لا يعنى أبدًا التغافل والانبطاح!!