ليست بطولةً ولا استقلالاً أن تتنحَّى الهيئة القضائية الموقَّرة التى تنظر قضية "التمويل المشبوه للمنظَّمات المدنية", ولا يعفيها أمامنا هذه الكلمات المُبهمة من عيِّنة "استشعار الحرج", والتى تترك الخيال يذهبُ إلى أوضاع قانونية معتبرة!، تتسبَّب فى هذا "الحرج"، كأن يكون القاضى قريبًا أو خَصمًا سابقًا لأحد المتَّهمين, وهذا ما ردَّده "حافظ أبو سعدة" أحد محامى المتهمين (للجزيرة)، حيث قال : ربما يقيم أحد أطراف المحكمة علاقة مع أحد القضاة , أو أن هذا القاضى يشعر بضغوط وسائل الإعلام أو الرأى العام مما يمنعه من إصدار حكم عادل... هذا ما قاله "أبو سعدة"، وهو قطعًا يختار من المبرِّرات التى تخدم موقف موكلّيه، حيث يوحى كلامه بأن الحكم العادل لن يُرضِى الرأى العام؛ والرأى العام بالطبع محتشد مع إدانة المنظمات الأمريكية وأموالها المشبوهة, وهذا يعنى أن أوراق القضية ضعيفة, وأن احتمالات الإدانة فيها مستبعَدة, وهذا يُغضب الرأى العام, ولكن الذى حدث بعد ذلك يذهب بنا بعيدًا عن هذه التفسيرات القانونية المعتادة, حيث أصدر النائب العام قرارًا برفع الحظر المفروض على سفر المتهمين!... وقد حدث هذا بعد ساعات من تصريح "هيلارى كلينتون" بأن: الولاياتالمتحدة ومصر ستحلان قريبًا جدًّا هذه المشكلة! ومن هذا المنطلق كان التفسير الوحيد المقبول لتنحّى القضاة هو أن ضغوطًا سلطوية مُورست عليهم؛ لذا كان من الأمانة أن يصر القضاة على أحد موقفين، إما الإصرار على النظر المحايد للقضية ورفض الضغوط , أو إعلان هذه الضغوط و"الجهة االمتدخّلة "... على الرأى العام. نعم، لقد كان مجرد التنحى أيام "مبارك" بطولة يدفع ثمنها القضاة الرافضون لإملاءات النظام, ورغم ذلك فقد رأينا قضاة يتجاوزون التهديدات فى أرزاقهم، ولا يكتفون بالتنحى ,بل يفاجئوننا بأحكام لا تُرضِى النظام متوائمين مع ضمائرهم الحية, أما الآن فلا عذر لأحد أن يترك الساحة, ويخلّف وراءه سيلاً من الأسئلة، تدعو الجميع لليأس من الإصلاح، وتُشعرهم أن الثورة المصرية لم تحقق شيئًا, وأن دماء الشهداء من خِيرة الشباب لم تحرك ساكنًا، خاصة فى "السلطة القضائية". إن استمرارنا فى رفع شعارات مثل "ثوب القضاء الناصع"، أو " القضاء المصرى مستقل"، لن يُجدينا نفعًا فى أوقات إصلاحاتنا الثورية، والأَوْلى أن تشهد الساحة القضائية ثورة تعيد ترتيب الأوراق, وتنتج سلطة قضائية مستقلة استقلالاً حقيقيًّا, ويكون الضرب - بعدها - بيد من حديد على أى قاضٍ مخالف. إن الحراك السياسى المشهود حول العملية السياسية، ينبغى أن يوازيه حراك قضائى على مسمع ومرأى الشعب؛ ليعلم الجميع فى أى اتجاه يصير قضاء مصر الثورة. إن الغَيرة تملأ القلوب من اعتبار "المحكمة العليا" فى "أمريكا" هى المنوط بها تفسير أى خلاف فى "الدستور", ويهيج مشاعرنا أكثر ذلك الإحساس الذى يملأ قلوب الأوروبيين بالثقة بالتحصُّل على الحقوق، إذا رُفع النزاع إلى المحاكم، بينما يُعَدُّ تضييعًا للحقوق عندنا إذا قال أحد المتخاصمين لصاحبه: تاخد اللى فيه النصيب، وترضى بقليلك، ولاَّ تروح المحكمة، وتضيع كل حقوقك؟! وفى الوقت الذى مازالت تمارَس فيه أساليب الاستبداد السياسى الفوقى على قضاتنا, يقف قضاء الدول المتقدّمة سدًّا مَنيعًا لحِفظ الحريات وتوقير القانون، والضرب على أيدى مُنتهكيه، ولو كانوا فى أرفع المناصب (راجع ما حدث لكلينتون وبيرلسكونى وميتران، وأخيرًا الرئيس الألمانى)، كأنهم يمارسون عدالتنا التى أنشأها ديننا. سننتظر قانون "إصلاح القضاء"، الذى وعد به "د.الكتاتنى"، وحتى حينه فلن نصدق مبررات تنحى القضاة عن نظر قضية "المنظمات المدنية". [email protected]