لا يزال مسلسل العصيان المدنى مستمراً فى الميدان التاريخى أقصد التحرير، وكذلك فى بعض الجامعات التى هى فى الأصل بعيدة وبمنأى مطلق عن التوصيف العالمى والأكاديمى بفضل السياسيات التعليمية للرئيس المخلوع مبارك، ولرموز نظامه الذين أرادوا أن يعودوا بالأنظمة التعليمية إلى العصور الوسطى . ورغم أن محاولات مجتهدة ومستدامة تبذل وتقدم على مختلف المستويات الرسمية والبرلمانية والدينية الرسمية والتطوعية أيضاً إلا أن هوس بعض الشباب المحموم لا يزال ذا حضور كثيف، وهم بذلك متغافلون مقدرات هذه الأمة التى يعيثون فى أرضها فساداً وهم لا يعلمون، والكارثة حقاً لو أنهم يعلمون ويفطنون مغزى العصيان والإضراب الذى يعصف باستقرار الوطن . ولقد انبرى كثيرون وأنا منهم فى التنديد بهذا العصيان الذى لا وقت له ولا آذان، ولكن هناك من يدعم بقوة هؤلاء العصاة ( من لفظ العصيان المدنى ) والمضربين لبقائهم وتعطيل مصالح العباد والبلاد، متوهمين أن مسألة انتقال السلطة مسألة تشبه حجز تذكرة قطار بمحطة ريفية، كما أنهم يظنون أن القضاء سيستجيب للرأى الجماهيرى بشأن التعجيل فى محاكمة رموز النظام، رغم أننا ارتضينا بالمحكمة والقاضى والقضية برمتها، ولنا أن نعلى فى هذا الأمر شأن قضائنا المصرى النزيه الذى نتمناه دائماً نزيهاً . ولكن هذا العصيان جعلنى أسترجع بعض الذكريات المهمة التى ساعدت الثورة فى نجاحها وإن لم تنجح تدريجياً فى تحقيق مطامحها ومطالباً، هذه الذكريات مفادها أننا لو كنا نملك وقتها قراراً سياسياً لكنا أعلنا أن الشرطة المصرية أعلنت عصيانها المدنى وإضرابها العام، ورغم أن الضباط والجنود والأمناء والوزارة برمتها ليست مستعدة الآن لتلقى ضربات جديدة تضاف إلى مثالبها واتهاماتها المتمثلة فى خيانة الأمانة وقتل الثوار وأخيرا الانفلات الأمنى وتسهيل أعمال البلطجة . لكن بالمنطق وبحسابات الورقة والقلم لماذا لم نعى وقت الثورة المجيدة أن أفراد الأمن أعلنوا عصياناً مدنياً وإضراباً عن العمل الذى هو أمانة فى أعناقهم، ولعل هذا هو الاتهام المباشر الذى ينبغى أن يوجه إلى وزير الداخلية السابق حبيب العادلى، وكبار مساعديه بدلاً من تهمة قتل المتظاهرين، لاسيما وأن الفاعل الأصلى حتى الآن مجهولاً وإن كان يعرفه أبناء الشعب وهم الضباط الذين أطلقوا النار على الثوار والمتظاهرين لكنهم فروا، لذا فالتهمة واردة أن تسقط عن شركائهم لأنهم ليسوا فاعلين أصليين. أما تهمة العصيان المدنى وإن كنا نقبلها من الموظف الإدارى بمديرية التربية والتعليم، أو من موظف بالشباب والرياضة، إلا أننا لا ولن نقبلها من فئات نوعية كالطبيب وسائق القطار والمدرس وأخيراً الضابط . ولكن هذا ما حدث بالفعل وتغافل عنه كثيرون، فمجرد ترك الضباط لأماكن عملهم بحجج ودعاوى متباينة لهو عصيان وخيانة لأمانة وضعها الشعب فى أعناقهم دونما قيد أو شرط. والذين يذهبون الآن فى كل مكان يتحدثون عن ضرورة استعادة هيبة الشرطة كان عليهم من الأحرى توجيههم إلى تهمة الخيانة أو بلغة لطيفة رشيقة العصيان والإضراب، بدلاً من الحديث عن عودة المكانة والهيبة والوضع الاجتماعى الذى هو حق يشمل كل المصريين وليست فئة محددة. ورغم أن عصيان الضباط وقت الثورة ساهم فى الانفلات الأمنى وأسهم فى التلويح بورقة التخريب والفوضى المستمرة حتى وقتنا الراهت، إلا أننا كمواطنين نأمل أن تتخلى الشرطة المصرية عن أدائها لمسلسل الأيدى الناعمة والطبطبة على المجرمين والخارجين عن القانون بدعوى احترام حقوق الإنسان . ويخطئ من يظن من الضباط أن الشعب يريد قهره، فالشرطة وإن كانت ككل قطاعات الدولة تضم الفاسد والمفسد، إلا أنها تضم أيضاً عناصر شريفة اليد عظيمة القدر بأعمالهم وأفعالهم وأدوارهم التى أدوها على أكمل وجه . لكن مشكلة الشرطة وقت الثورة أن عناصرها الفاسدة كانت أكبر عدداً من هؤلاء الشرفاء فانزلق معهم بغير موعد ضباط مصريو الهوية والتكوين نفتخر ونعتز بهم. ولكى تعود الشرطة سريعاً إلى حضن البلاد، عليهم أن يدركوا أن طبيعة وظيفتهم أكبر بكثير من استخدام السلاح، وأكبر بكثير من قوام ممشوق وزى نظيف وأمر ونهى، طبيعة الوظيفة أن يرى المواطن فى عينى الضابط شعور الأمن والآمان، وأن يستشعر المواطن البسيط أن عدالة مهنة الأمن هى التى ستعيد حقه المسلوب . ولست مع الصيحات التى تنادى بضرورة هيكلة الشرطة وأن يتولى أمرها أحد الحقوقيين، أنا على ظن حسن بهم أن يتولوا شئون أمرهم بأيديهم فهم قادرون على ذلك، طامحاً أن يكونوا بنفس القدر قادرين على اكتساب ثقة المواطن، والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل .