كانت "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" أعظم إنجازات المسيري العلمية والفكرية على الإطلاق حيث عكف عليها حوالي ربع قرن، ووضع فيها نموذجًا تفسيريًا جديدا للظواهر الاجتماعية تتجاوز الواحدية المادية والسببية. ويعود الفضل لتلك الموسوعة في تبديد كثير من أوهام الخطاب الإسلامي القديم عن الظاهرة الصهيونية واليهود واليهودية وهو الحقل الثاني في اسهامات المسيري الفكرية الكبرى. وأغلب كتابات المسيري تسعى إلى رصد الظاهرة الصهيونية وتحليلها تحليلا يتجاوز بها منهج التعبئة (والشحن) الذي فات أوانه والتسطيح الذي لا يصلح أداة للمعرفة ( كما قال الأستاذ هيكل في تقديمه لكتاب المسيري الصهيونية والنازية). كان تناول الخطاب الإسلامي للظاهرة الصهيونية واليهود واليهودية قبل المسيرى يعاني مواطن من الخلل والقصور صبغ مجمل رؤية الظاهرة الإسلامية لتكييف الصراع العربي الصهيوني حول فلسطين، فهذا الخطاب أما يتناول اليهود كجماعة دينية يسري عليها ما يسري على بقية الجماعات الدينية من قوانين وآليات ومؤثرات تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية، وإما أنهم -أي اليهود- يمثلون وحدة عرقية دينية منفردة ومتميزة واستثنائية دونا عن بقية البشر ولا يسري عليها ما يسيري عليهم، وفي الحالين يبدو اليهود في المنظور الأول خاضعين للعام وليس لديهم أية خصوصية، وفي المنظور الثاني يبدو اليهود كجوهر ميتافيزيقي ثابت متسام متعال تستعصي معرفته. ولقد عاش كثير من أبناء الظاهرة الإسلامية ردحًا من الزمن يرون الصراع من المنظور الإسرائيلي وهم لا يدرون ويستبطنون كثيرًا من مقولات عدوهم وهم لا يعون. لقد سيطر على الخطاب الإسلامي التقليدي أوهام خمسة "وربما أكثر لو دققنا البحث": - من ذلك ما كانت تشيعه بعض أقلام ورموز الظاهرة الإسلامية عن "إسرائيل الكبرى" والتي كان موعد قيامها عام 1997 وأنه ستقوم حرب في تلك السنة تسيطر بها إسرائيل على ما تسميها حدودها التوراتية من النيل للفرات وهذا ما أعنيه بقولي رؤية الصراع من خلال المنظور في إسرائيل. يقول المسيري وهو يلخص عناصر الإجماع الصهيوني (المسلمات النهائية والعقد الاجتماعي الذي يستند إليه التجمع الصهيوني): "لقد تنازل معظم الصهاينة عن الشعارات القديمة مثل جمع المنفيين، وإسرائيل الكبرى "حدوديًا" أي إسرائيل الممتدة من النيل إلى الفرات، وبدءوا في تبنى شعارات مثل "الدياسبورا الإليكترونية" وإسرائيل العظمى "اقتصاديًا" المهيمنة على المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج فهذا هو عصر النظام العالمي الجديد وما بعد الحداثة، وقد أثبت الصهاينة مقدرة غير عادية على التكيف مع المعطيات الدولية وهذه سمة أساسية للدولة الوظيفية، (الصهيونية "أو الصهيونيات المختلفة" بعد مائة عام، فلسطين المسلمة، السنة 16، العدد 5، مايو 1998، ص 10). - مثلا (وهما) آخر كثيرًا ما يردده أستاذنا المسيري وهو عن الأرقام التي تزعم إسرائيل أنها تقوم بتهجيرها ومدى صدقها أو مدى معقوليتها وإمكانية تحققها بعد نضوب مصادر الطاقة البشرية للهجرة: فمنذ ما يقرب من عشرين عاما يكتب يهودا باور: "لا توجد جماهير يهودية تدق بواباتنا بل العكس فغالبية اليهود السوفييت تدق على بوابات أمريكا أما يهود آسيا وأفريقيا فهم هنا في إسرائيل أو في فرنسا ولم يبق سوى بقايا صغيرة منهم ولن يأتي يهود الغرب لا الآن ولا في المستقبل" (الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية ص51). - مثلا (وهما) ثالثا هو وهم الدولة الدينية (اليهودية) وما كانت تروج له أقلام رموز الظاهرة الإسلامية من أن "دبابة عليها التوراة يجب أن تواجهها دبابة عليه القرآن" وما درى من سطّر هذه الصياغة البلاغية أن تلك "الدبابة" ليست عليها التوراة ولا حتى التلمود بل هي دبابة علمانية حتى النخاع اتخذت ديباجات يهودية لتجمع أكبر قدر من البشر (حتى وإن كانوا غير يهود مثل الفلاشة الإثيوبيون، أو حتى ملاحدة مثل أغلب السوفييت) فحتى الآن لم يتفق أركان الدولة الصهيونية من الدينيين والعلمانيين على: من هو اليهودي؟ وهي إشكالية إسرائيلية لم تحل حتى ألان. - أما الوهم الرابع من الأوهام التي كان الخطاب الإسلامي يروج لها هو وهم اليهودية أو الصهيونية العالمية أو رأس المال اليهودي العالمي أو سيطرة اليهود على وسائل الإعلام العالمية. فتعبير "الصهيونية العالمية" هو تعبير عن التبعية الإدراكية كما يقول المسيري فالصهيونية لا أثر لها في الصين أو الهند أو أفريقيا (باستثناء جنوب أفريقيا) ولا في كل آسيا (باستثناء الجيب الاستيطاني في فلسطين) ولا في أمريكا اللاتينية (إلا في الجيب اليهودي في الأرجنتين) أي أن الصهيونية (وهي إفراز لحركيات التاريخ الغربي ولا يمكن فهمها إلا داخل هذا الإطار ) توجد أساسا في العالم الغربي، ولذا كان من الضروري أن نسميها "الصهيونية الغربية" فهذه هي التسمية الوحيدة الدقيقة التي تستند إلى رؤية عميقة للواقع (الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية، تونس: منظمة التحرير الفلسطينية، 1988، ص9). ويقول أيضا: فالصهيونية لم تكن في يوم من الأيام "عالمية"، فما يزيد على 99% من أعضائها في العالم الغربي وربما يزيد على 80% من هؤلاء في الولاياتالمتحدة أي أنها ظاهرة غربية بالأساس مركزها الولاياتالمتحدة، وهذا أمر متوقع فحوالي نصف يهود العالم يوجدون في الولاياتالمتحدة وما يزيد على 95% من يهود العالم إما في العالم الغربي أو في بلاد استيطانية مرتبطة به (جنوب أفريقيا واستراليا ونيوزيلندا) ورغم كل هذه الحقائق إلا أننا نستمر في الحديث عن: "الحركة الصهيونية العالمية" و"المنظمة الصهيونية العالمية" لا "الحركة الصهيونية الغربية/ الأمريكية" مثلا. (د. عبد الوهاب المسيري، العالم من منظور غربي، ص 184). - خامس هذه الأوهام وأعظمها على الإطلاق فهو الحديث المتواصل والمتكرر عن اليهود باعتبارهم كل متكامل وكيان واحد هو هو في كل أنحاء العالم بصرف النظر عن ظروف المكان والزمان والمتغيرات البيئية والاجتماعية. فجاء الخطاب الفكري الذي طرحه المسيري مبددًا تلك الأوهام الخمس عن الظاهرة الصهيونية واليهود واليهودية فتكلم عن: الجماعات اليهودية وتواريخ الجماعات اليهودية نافيًا مفهوما: الوحدة اليهودية والجوهر اليهود الكامن في كل اليهود، فبدد وهم الوحدة اليهودية والشعب اليهودي. يقول المسيرى: "الوحدة اليهودية عبارة تفترض أن ثمة وحدة تربط بين أعضاء الجماعات اليهودية كافة في كل زمان ومكان، وأن هذه الوحدة تتمثل في وحدة الهوية والشخصية والسلوك وفي أشكال مختلفة من التضامن (..) وهو تفسير الصهاينة الدينيين أما اللادينيون فيرون أن مصدر الوحدة هو الجوهر اليهودي الكامن في كل اليهود" (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج 2، ص21). لقد كان حديث المسيري الدائم عن أزمة الصهيونية ودولتها مما ساهم في كشف زيف تلك الدولة (الأفضل أن نسميها جيب استيطاني إذ هي كذلك) بل وعنصريتها وجعل الطرف العربي الإسلامي يعرف الحجم الحقيقي لعدوه فلا يراه ذلك العملاق الذي تصعب هزيمته أو تستحيل، وإنما تراه قزما يفر أمام حجر من كفّ صبي عرف رسالته في الحياة. كما ساهم حديث المسيري الدائم عن أزمة الصهيونية ودولتها في تقويض كثير من دعائم التفكير التآمري على شيوعه في الخطاب الإسلامي القديم وأخذت الظاهرة الصهيونية حجمها الطبيعي من حيث أنها جيب استيطاني (أو حاملة طائرات) ولقد زالت كل الجيوب الاستيطانية في العالم إلا التي تم فيها إبادة الشعب الأصلي، ولن يكون الفلسطينيون هنودا حمرًا. وإجمالاً فإن خطاب المسيري الإسلامي فيما يتعلق بالظاهرة الصهيونية واليهود واليهودية بما يتضمنه من تحليلات ورؤية ونماذج ومفاهيم أجبر كثير من رموز الظاهرة الإسلامية على مراجعة خطابها والمسلمات والافتراضات التي كانت قائمة في خلفيته الذهنية وأصبحت رؤية المسيري للظاهرة الصهيونية هي التي تشكل أهم ملامح الخطاب الإسلامي الجديد باعتباره متخصصا قضى أكثر حياته يدرس الظاهرة ويجلو غوامضها مما جعله جدير بأن تتبنى الظاهرة الإسلامية مجمل رؤيته وتصك خطابها بناء على ما توصل إليه. لذا يمكن أن نؤرخ في مراحل تطوير الخطاب الإسلامي فيما يخص الصهيونية واليهودية بقولنا قبل المسيري وبعد المسيري.