في ذكري الراحل الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري تأتي كتاباته الجريئة حول الصهيونية العالمية واليهودية لتشكل عالما مختلفا عن التناقضات والتجاذبات السياسية التي تحاول العديد من القوي الدولية بثها في الفكر العالمي وتأصيلها سياسيا عبر قرارات ومواقف من شأنها خلق واقع جديد يقبل بالدولة الصهيونية كأمر واقع يجب التعامل معه كما هو دون تغيير أو تعديل. تفكيك الصهيونية وموسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" الشهيرة - وهي عمل الدكتور المسيري الأبرز الذي استغرق من عمره ما يقرب من ثلاثين عاما لإنجازه - لا تكتفي بالتفكيك، أي نقد المصطلحات الصهيونية، وإنما تنتقل إلى التأسيس في محاولة طرح رؤية عربية بديلة للظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية، ووضع مصطلحات جديدة لوصف هذه الظاهرة. واستمر المسيري في محاولاته الدءوبة لكشف طلاسم السر الصهيوني، والكشف عن منظماتها السرية، وعقائدها الخفية، وعلاقات أفراد الجماعات اليهودية بالمجتمعات التي يوجدون فيها وبالدولة الصهيونية، وكذلك علاقاتهم بشخصيات عالمية بارزة كان لهم دور في صناعة التاريخ الصهيوني. ورطة تاريخية وكانت فكرة الدولة الصهيونية كثير ما تشغل باله، وهو ما عبر عنه بالتحليل في مقالته التحليلية الشهيرة "الدولة الصهيونية بين المأساة والملهاة"، قائلا إن التصريحات الصهيونية التي تعبر عن الثقة بالذات تخبئ في واقع الأمر إحساسا إسرائيليا عميقا بالورطة التاريخية التي وجد الإسرائيليون أنفسهم فيها. وتابع، لقد أخبرهم الغرب أنه سيوطنهم في صهيون، فلسطين، أرض السمن والعسل، وهي أرض يسكنها العماليق والكنعانيون الذين يمكن إبادتهم ببساطة، ولكنهم بدلا من ذلك وجدوا أن فلسطين عامرة بسكانها الذين يتكاثرون كما وكيفا، ويقاومونهم بكل عنف، وكل الغرب في واقع الأمر كان يود التخلص منهم من خلال توطينهم في منطقة ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة له حتى يمكنهم حماية مصالحه، وأنهم دخلوا في طريق مسدود، فصراعهم مع الفلسطينيين والعرب مستمر ولم يتوقف منذ بداية الاستيطان عام 1882 حتى عام 2007، ولا توجد نهاية للصراع في الأفق. وقد ولَّد هذا عندهم إحساسا سوداويا بالورطة التاريخية وشعورا بفقدان الاتجاه". أزمات داخلية وأوضح المسيري أن الدولة الصهيونية من الداخل مليئة بالصراعات، فهناك الصراع العلماني/ الديني، والصراع الإشكنازي (الغربي) السفاردي (الشرقي)، والصراع الطبقي بين الذين ازدادوا ثراء بعد سياسات الخصخصة والعولمة والفقراء الذين ازدادوا فقرا، وهناك الصراعات بين الأحزاب المختلفة، ولذا يرى البعض أنه لو ترك الإسرائيليون وشأنهم فإنهم سرعان ما سيلتهمون بعضهم البعض في صراعات داخلية. ورصد الكاتب الراحل النكات الساخرة المنتشرة داخل أركان الدولة الصهيونية التي تعبر عن أزمتهم النفسية العميقة، قائلا: "وقد وجدت أن هذه النكات تعبر عن لا وعي الإسرائيليين وعن خريطتهم الإدراكية الحقيقية، وعن حجم الورطة التاريخية التي يعيشونها"، مشيرا إلى أن هذه النكات التي يطلقها الإسرائيليون، والتي تعبر عن حقيقة رؤيتهم للواقع واستجابتهم له، وهي رؤية مختلفة عن التصريحات الصهيونية وعن الصورة التي يقدمها الإعلام العربي وبعض الدراسات الأكاديمية التي تكتفي بدراسة التوراة والتلمود والتصريحات الصهيونية، بدلا من دراسة الواقع الاستيطاني الصهيوني بكل تناقضاته وإنجازاته وإخفاقاته. حرب لبنان ويشير المسيري إلي أن الإحساس تعمق بالورطة التاريخية وفقدان الاتجاه بعد حرب لبنان الأخيرة التي هزم فيها الجيش الإسرائيلي، ولم يحقق أيا من الأهداف التي أعلن أنه ينوي تحقيقها، ويورد نكتة إسرائيلية: "إن أحد الصحفيين طرح على وزير الدفاع عمير بيريتس السؤال التالي: صرحت قبل الحرب أن عمير بيريتس سيجعل حسن نصر الله ينسى اسمه، فما تعليقك"؟ فأجاب مندهشا: من هو عمير بيريتس هذا؟ فكأن الذي نسى اسمه هو وزير الدفاع الإسرائيلي بعد الهزيمة الساحقة الماحقة التي لحقت بالجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر. هاجس النهاية ويقول، وعلى عكس ما يتصور الكثيرون، هاجس نهاية الدولة اليهودية يعشش في الوجدان الإسرائيلي. وهم محقون في ذلك، إذ يجب ألا ننسى أن كل الجيوب الاستيطانية المماثلة (الممالك الصليبية– الجيب الاستيطاني الفرنسي في الجزائر- دولة الأبارتهايد في جنوب أفريقيا) قد لاقت نفس المصير، أي الاختفاء، ويعبر هذا الهاجس عن نفسه أحيانا عن طريق دراسات، أو مقالات متشائمة تحذر المستوطنين من هذه النهاية الحتمية، كما أنها تعبر عن نفسها أحيانا عن طريق النكات.