أكتب لكم هذه الكلمات من أقصى جنوب آسيا، وبالتحديد من جزر المالديف، حيث أتواجد هنا فى مهمة عمل لعدة أيام.. لم أكن أتخيل عندما تطئ قدمى أرض المالديف، أنى سأشاهد بلدًا تبلغ نسبة المسلمين السُنة فيه 100%، وفيها الكثير من مظاهر الرقى الخلقى والسلوكى والعلمى، بل والأكثر من ذلك أن الغالبية العظمى من الفتيات هنا محجبات. شاءت الأقدار أن تتزامن زيارتى أيضًا مع اضطرابات سياسية ضخمة مرت بها البلاد، وأدت إلى تنحى الرئيس (محمد نشيد) عن رئاسة البلاد، وتسليم السلطة لنائبه (محمد وحيد حسن)، وذلك بعض انضمام الجيش والشرطة إلى دعوات العصيان المدنى، ولكن تمكنت البلاد من عبور هذه الأزمة بهدوء من خلال توافق كل القوى السياسية والأحزاب على إدارة نائب الرئيس للسلطة، حتى موعد الانتخابات الرئاسية فى العام المقبل، ومن الطريف أن اللاعب الرئيس فى هذا التوافق كان حزب "العدالة"، وهو يمثل الامتداد الفكرى لجماعة الإخوان المسلمين فى المالديف. ربما لا يعرف أغلبنا شيئًا عن جزر المالديف، قد يعرف البعض أنها فقط جزر استوائية ذات طبيعة خلابة، ولكن الحقيقة أن هذه الدولة تتكون من قرابة 1200 جزيرة صغيرة، منها 200 جزيرة فقط آهلة بالسكان، فيما يستفاد من باقى الجزر كمنتجعات سياحية أو مناطق صناعية، النسبة الساحقة للمسلمين فى المالديف كانت محور سؤالى للعديد من الشخصيات التى قابلتها هنا، وقد عرف أن السر وراء ذلك يرجع إلى بداية دخول الإسلام للجزر فى العام 1153، على يد داعية من المغرب العربى يدعى الشيخ (أبو البركات يوسف البربرى) حيث تجاوب الشعب كله مع دعوة الإسلام حكومة وشعبًا، فدخل السلطان (ماهاكا لامنجا) الإسلام، وسمى نفسه السلطان (محمد بن عبد الله)، وأصدر مرسومًا يدعو فيه جميع أبناء الشعب إلى اعتناق الإسلام، ولم يكتف بذلك؛ بل أمر بإنشاء المساجد والمدارس الإسلامية فى جميع أنحاء الجزر. المدهش أيضًا أن الدستور المالديفى يحمل بين نصوصه وضعية خاصة للدين الإسلامى، لم تصل إليها أغلب الدول الإسلامية، فينص بحسب المادة التاسعة فيه على أن (المواطنين يجب أن يكونوا جميعًا مسلمين، ولا يمكن لغير المسلم أن يصبح مواطنًا مالديفيًا)، كما تنص المادة الثانية فيه على أن (الجمهورية مؤسسة على مبادئ الإسلام)، وتنص المادة العاشرة على أنه (لن يطبق أى قانون فى المستقبل يعارض مبادئ الإسلام)، بالإضافة إلى المادة التاسعة عشرة التى تنص على أن (المواطنين أحرار فى أن يشاركوا أو يمارسوا أى نشاط، بشرط ألا يكون محرمًا فى الشريعة الإسلامية)، وأحكام الشريعة الإسلامية ليست نصوصًا فقط فى الدستور؛ بل يتم تطبيقها فى المالديف فى الكثير من المجالات، خاصة فى الأحوال الشخصية، فجميع المحاكم فى المالديف تُصدر أحكامها وفقًا للشريعة الإسلامية، وجميع الحدود هنا مطبقة، فيما عدا حدى الرجم وقطع يد السارق، كما تقوم المحكمة العليا بمراجعة كل القوانين التى تصدر عن البرلمان، للتأكد من مطابقة هذه القوانين لأحكام الشريعة الإسلامية، بالإضافة إلى قيامها بمهمة مراقبة التطبيق الصحيح لأحكام الشرع الإسلامى فى جميع المحاكم. ولكن كيف تمكنت المالديف من تحقيق المعادلة الصعبة، لتصبح من أهم المقاصد السياحية فى العالم، وتساهم السياحة بأكثر من 60% من إجمالى إيرادات العملة الأجنبية للبلاد، و28% من الناتج المحلى الإجمالى، كما زادت أعداد السائحين فى العام الأخير بنسبة 32% ، كل ذلك مع التزامها بالتعاليم والآداب الإسلامية، هذا ما سوف نتناوله بالتفصيل فى المقال القادم إن شاء الله. [email protected]