فجيعة أخرى تعيشها مصر حاليا ، بالكشف عن مقتل طالب كلية طب عين شمس المتفوق في السنة الخامسة والأخيرة ، سنة التخرج ، الطالب أحمد مدحت ، ومرة أخرى ، الداخلية طرف في الحادثة ، لكن كالمعتاد الروايات تتباين وتتناقض بين أهل القتيل وبين رواية الداخلية ، أهل الطالب قالوا أن قوة أمنية قامت بإلقاء القبض عليه لتنفيذ حكم بالحبس عامين على خلفية اتهامه بالتظاهر ضد النظام ، وأنه في اليوم التالي لاعتقاله أبلغتهم الداخلية بأنه انتحر بإلقاء نفسه من الطابق الثاني في إحدى البنايات بحي مدينة نصر بالقاهرة ، الداخلية قدمت رواية أخرى ، ويبدو أن النيابة العامة اعتمدت رواية الداخلية ، وتقول أن قوة أمنية كانت تداهم وكرا للرذيلة في مدينة نصر وكان الطالب الفقيد داخله ، فلما سمع الطالب أن مباحث الآداب تقرع أبواب شقة الدعارة ألقى بنفسه من الشقة فمات على الفور وتم نقل جثمانه إلى المشرحة ، وقد سخر كتاب وإعلاميون من تلك الرواية كما هو منشور ومتداول في مواقع التواصل الاجتماعي ، كما سخر منها زملاء الطالب واتحاد طلاب كلية طب عين شمس الذي أصدر بيانا يطالب فيه بالكشف عن قتلة زميلهم ، والجميع أكدوا على اشتهاره بالاستقامة والأخلاق الرفيعة . أغلب الظن أن الحقيقة في مقتل المرحوم أحمد مدحت ستظل غائبة أو تائهة أو ضائعة ، بين الروايات المختلفة ، فهذا سيناريو متكرر في السنوات الأخيرة ، وبعض المعارضين يستحضرون واقعة مقتل المرحوم خالد سعيد على يد اثنين من المخبرين ، حيث قدمت الداخلية رواية تقول أنه مات بابتلاعه لفافة بانجو ، وتم تكييف القضية على هذا النحو في التحقيقات ، وكانت سببا من أسباب تفجر ثورة يناير بعد انتشار موجة غضب واسعة ، ثم اتجهت التحقيقات بعد الثورة إلى إدانة رجال الداخلية وإثبات أنهم قتلوا خالد سعيد وأنهم ضربوا خالد على رأسه عدة مرات بالسلم الحديدي حتى فاضت روحه ثم اخترعوا قصة لفافة البانجو ، وتم الحكم بعدها بسجن القتلة ، غير أن البعض يقارن مأساة الطالب أحمد مدحت بمأساة الطالب الإيطالي جوليو ريجيني ، حيث ما زالت الحقيقة غائبة في مقتله حتى اليوم رغم مرور أشهر طويلة ، ولا يوجد أي كلام رسمي من أي جهة ، وكل ما تسمعه أن التحقيقات جارية ، رغم أنها تحقيقات يشارك فيها أكثر من جهاز أمني وقضائي في مصر وإيطاليا ، وما زال دم ريجيني ضائعا ، وكانت روايات الإعلام الرسمي في البداية بعد اكتشاف الجثة في أحد الطرق الصحراوية تتجه إلى أنه كان "شاذا" جنسيا ووجدوا جثمانه معرى من أسفله ثم تم سحب تلك الرواية ، ثم ظهرت رواية أخرى أنه كان في شجار مع شخص إيطالي عند القنصلية وعلت أصواتهم ثم اختفى بعدها ثم تبعثرت تلك الرواية بعد أن سوقها إعلاميون مقربون من الأجهزة ، ثم ظهرت رواية أخرى رسمية للداخلية أنها قامت بضبط عصابة من خمسة أشخاص كانت متخصصة في اختطاف الأجانب ، وأنهم وجدوا بحوزتهم متعلقات ريجيني من جواز سفر وخلافه ، وأعلنت الداخلية أنها قامت بتصفية تلك العصابة بالكامل ، فلم ينج منهم أحد ، وبالتالي لا يوجد من نسأله أو نحقق معه من تلك العصابة ، ثم تراجعت الداخلية عن تلك الرواية وقالت أنها لم تقل أن تلك العصابة هي من اختطفت ريجيني ، لكنها لم تفسر حتى الآن سبب وجود متعلقات ريجيني معهم ، كما أن الضحايا الخمسة الذين قتلوا في الميكروباص ونسبتهم الداخلية للعصابة لا يعرف أحد حتى الآن مصير التحقيقات في مقتلهم وما زالت أسرهم تعيش هذا الكابوس بلا نهاية منظورة ، قصة وطويت صفحاتها . أيضا كانت هناك قضية مقتل الناشطة شيماء الصباغ رحمها الله في ميدان طلعت حرب وسط القاهرة بطلق ناري أثناء فض الشرطة مظاهرة سلمية كانت تحمل فيها الورود ، وأعلنت الداخلية وقتها أن الطلق الناري يرجح أنه خرج من بعض زملائها عن طريق الخطأ أو القصد وأكدت الداخلية أن القوة الأمنية التي قامت بفض المظاهرة لم تكن مسلحة ولا تحمل أي أسلحة نارية ولا خرطوش ، واتجهت التحقيقات إلى هذا المنحى ، قبل أن يتفاقم غضب سياسي واسع ، تدخل فيه الرئيس السيسي شخصيا ، وأبدى غضبه مما جرى وطالب بمعاقبة المخطئ أيا كان ، وبعدها مباشرة تحركت التحقيقات بسرعة لنكتشف أن رواية الداخلية لم تكن صحيحة وأن القوات كانت مسلحة وأن شيماء قتلت برصاص ضابط شرطة تمت إدانته وتحويله للمحاكمة والحكم بسجنه . بدون شك ، تكرار تلك الأحداث ، والتناقضات في الرواية الرسمية عن حوادث قتل متظاهرين أو معارضين ، من شأنها أن تجعل روايات الداخلية عند قطاع واسع من المواطنين موضع شك دائم وربما اتهام بالتلفيق وتضليل العدالة ، والأسوأ من ذلك أن يفقد الناس الثقة بوجود العدالة من أصلها في مصر ، خاصة وأن جهات التحقيق تعتمد غالبا على رواية الداخلية وتحريات المباحث فيها ، وبالتالي فمن الصعب أن تصل إلى الحقيقة ، وتظل الكثير من الوقائع معلقة ، كما هو الحال في واقعة الإيطالي جوليو ريجيني ، وغالبا ستظل كذلك في واقعة المرحوم الطالب أحمد مدحت . هذا مسار مخيف ومظلم في مصر ، ويعطي رسائل شديدة السلبية ، خاصة للأجيال الجديدة ، تجاه الدولة ودورها ورسالتها ومؤسساتها وأجهزتها وفكرة العدل والأمان فيها ، ودائما يأتي الغضب والانفجار الشعبي من الإحباط وفقدان الثقة والإحساس المتنامي بالظلم والقهر ، ولكن التجارب علمتنا أن أحدا لا يستفيد منها إلا بعد فوات الأوان .