الإضراب الراهن- غير المعلن- للشرطة، أضر كثيرا بالدولة وأضاع هيبتها، وصعّب مهمة حكومة الثورة، المرتقبة. فقد عمت الفوضى كل المرافق، والأراضى الزراعية تستنزف بالمبانى الهمجية، والباعة الجائلون انتهكوا كل سبر، حتى مترو الأنفاق، ..إلخ. والواقع أنه مهما حدث فالشرطة جزء من الشعب، وأفرادها هم أبناؤنا وإخواننا وجيراننا.. ولا بديل عن عودة المياه إلى مجاريها، ليحتضن الشعب شرطته، وتؤدى الشرطة واجبها فى حماية الشعب وخدمته. ومن الخطأ تفسير مصطلح (خدمة الشعب) على أن فئة تعمل (خَدمًا) لدى الفئات الأخرى، كما سمعت من أحد الضباط فى برنامج تلفازى!، فليست الشرطة وحدها التى تخدم الشعب، لأنه بالمقابل فكل المهن والحرف تخدم كل أفراد الشعب، بما فيهم الشرطة. وهذه حكمة الله تعالى فى توزيع المواهب والاختصاصات وتنويعها ليتكامل أداء الناس ومساهمتهم فى إعمار الأرض (...نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَة رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)، الزخرف- 32.. فكل الأعمال مطلوبة ومحترمة ولا غنى عنها، بل بالعكس فإن الحرف التى ربما ينفر منها الناس تكون أكثر أهمية من عمل الرؤساء والوزراء، الذين إن غابوا عن عملهم لن يحدث شىء، أما إن غاب رجل الإطفاء مثلا أو حتى الزبال فسوف تحدث كوارث. ومن الخطأ أن ينكر البعض أن الشرطة كان لها دور سلبى كبير فى حياة المصريين قبل الثورة، ولكن من الإنصاف أن نذكر أن السلوك الخاطئ لم يكن يخص الشرطة وحدها، فقد نجح النظام المخلوع فى إجراء عملية مسخ كبيرة للشعب، فتحول الكثيرون إلى عقارب تلدغ المواطن المسكين فى جميع المجالات. فإذا كانت الشرطة قد استخدمت كمخلب قط لإرهاب الشعب والتضييق عليه وتزييف إرادته وإذلاله، فإن وسائل الإعلام مثلا لم تكن أقل إجراما.. فقد ضللوا الشعب وخدعوه ونافقوا النظام وساعدوه فى عمليات غسيل المخ، كما زينوا للطاغية المخلوع سوء عمله، فرآه حسنا!. وقد قبل الشعب اعتذار الإعلاميين، رغم أنه كان اعتذارا شكليا ومخادعا بدليل أنهم عادوا إلى ما كانوا عليه، ولم يخلصوا للثورة ولا للشعب، خصوصا مع نيل الشعب حريته فى انتخاب ممثليه، فلم يعجبهم الاختيار، وما زالوا يتهربون من قول كلمة الحق. أما عن باقى المجالات، فلم تكن أقل سوءا، وهذه أمثلة بسيطة: الكثيرون بكافة المستويات استغلوا الانهيار الإدارى وضعف النظام وفرضوا الرشوة على المواطنين جهارا نهارا، أغلب المعلمين هجروا المدارس وحولوا التعليم إلى البيوت، أغلب رجال الأعمال استغلوا القرب من النظام وذبحوا المواطنين دون رحمة.. وتبعهم التجار، كثير من الأطباء حولوا الطب إلى تجارة قذرة ولم يرحموا آلام المرضى ولا آهات الفقراء، انعدمت الجودة فى أغلب الأعمال- خصوصا الحكومية- لنحصل على منشآت ومرافق رديئة تحتاج إلى الهدم وإعادة البناء فى طول البلاد وعرضها (أعمال الرصف خير مثال).... والأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها؛ بما يثبت أن الشرطة لم تكن وحدها التى أساءت للشعب، فكلنا آثمون.. ومصر تستحق منا جميعا أن نتحلى بأخلاق الثوار ونتصالح معها ونعتذر لها، لكى نبدأ من جديد على بياض، ويكفينا إثما أننا صبرنا على الطغيان وخضعنا له ثلاثين سنة كاملة!. ومشكلة الشرطة أنها كانت تمتلك وسائل القهر التى لا يملكها الآخرون، فكانت الإساءة أكثر وضوحًا، ولكن يجب ألا ننسى أن هذه كانت سياسة نظام وأن أغلب تجاوزات الشرطة كانت بتعليمات.. صحيح أنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، ولكن كما أسلفنا فعمليات المسْخ المستمرة حولت الكثيرين إلى أدوات للطغيان، وغيبت العقل والحكمة؛ إلى أن قامت الثورة. المطلوب إذن أن نتسامح ويعذر بعضنا بعضا ونتخلى عن عقلية الثأر ونبدأ من جديد بعقدٍ جديد وفكر جديد كى نستطيع إعادة بناء الوطن الذى دمره الطغيان. أما عن الشرطة تحديدا فمطلوب منها الكثير للمساعدة فى تطبيع العلاقات مع المواطنين، خصوصا الذين أضيروا مباشرة من ممارسات ما قبل الثورة.. ونقترح أن يقوم وزير الداخلية بالخطوات التالية: (1) الاعتذار للشعب، نيابة عن جهاز الشرطة؛ (2) تصنيف أفراد الشرطة للتمييز بين من شاركوا فى عمليات التعذيب والقتل، والآخرين.. مع وقف الفريق الأول عن العمل وتحويلهم للمحاكمة العادلة؛ (3) إنشاء إدارات جديدة (بزى جديد) وعقد جديد وقيادات جديدة وأفراد جدد، وذلك بالإعلان عن كل وظيفة بشروطها ومسئولياتها ومرتباتها الجديدة، ومنح كل من يرغب فرصة التقدم ودخول الاختبار، مع عقد دورات تدريبية لمن تنقصهم الخبرة فى هذا المجال، ويبدأون العمل بالزى الجديد فورًا؛ (4) تصفية من لم يتقدموا إلى أية وظيفة- بعد استكمال الإعلان عن كل الإدارات الجديدة- باعتبارهم رافضين لنظام الشرطة الجديدة، شرطة ما بعد الثورة، ومنحهم الحق فى الاستقالة، أو الإقالة؛ (5) سرعة تدريب خريجى كليات الحقوق والتربية الرياضية والخدمة الاجتماعية بأكاديمية الشرطة لتخريج العدد اللازم من الضباط لاستكمال العجز؛ (6) تدريب الشرطة الجديدة على ممارسة العمل الشرطى الإنسانى المتحضر بروح جديدة وفكر جديد، مع إمدادهم بوسائل الاتصال الحديثة لمساعدتهم فى سرعة التحرك والوصول إلى الأماكن التى تحتاجهم، لكى يشعر الشعب بالتغيير. وفى المقابل على الشعب أن يفتح صفحة جديدة وينسى الماضى ويحتضن أبناءه بالشرطة. [email protected]