منذ تفجّر الأزمة في الداخل السوري على هيئة ثورة شعبية تطالب برحيل النظام السوري واشتداد وطيس المواجهة بين الشعب السوري من جهة والنظام السوري من جهة أخرى، وارتفاع أعداد الضحايا من المدنيين والعسكريين، ولبنان يعيش حالة قلق وانتظار على كافة المستويات، الرسمية والشعبية والسياسية والحزبية، حتى باتت المواقف اللبنانية على هذه المستويات محكومة بما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا. ووسط الانقسام السياسي الذي كان وما زال قائمًا في لبنان على خلفيات كثيرة ومتعددة، ووسط المخاوف من انتقال شرارة تداعيات ما يجري في سوريا إلى لبنان، ابتدعت الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي ومن خلفه رئيسا الجمهورية، ميشال سليمان، والمجلس النيابي، نبيه بري، سياسة النأي بالنفس التي لم تسرّ على ما يبدو هنا صديقًا ولا عدوًا، خاصة في ظل المواقف التي اتخذها وزير الخارجية عدنان منصور في الجامعة العربية والتي غطّى فيها تصرفات النظام السوري تحت عناوين مختلفة، وهو ما زاد من منسوب القلق والتوتر في البلد. سياسة النأي بالنفس الحكومية هذه لم تعجب أيضًا حلفاء النظام السوري الذي كان يطلب المزيد من المواقف والتأييد له في سياسته لمواجهة "الثورة" الشعبية، وهو ما جعل السفير السوري في بيروت، علي عبد الكريم علي، يزور الرئيس ميقاتي قبل مدة ويعرب عن عتب بلاده الشديد عليه جراء مواقفه التي عدّها عدائية في مكان ما، إلا أن ذلك لم يجعل الحكومة تتحوّل عن موقفها المعلن، وإن كانت تتلقى بعض الأحيان سهام المعارضة التي تنتقد بشكل لاذع صمت الحكومة على ما تصفه المجازر المرتكبة في سوريا، ولا تقوم بدورها اللازم من الناحية الأخلاقية والإنسانية في مساعدة اللاجئين السوريين، فضلًا عن أنها تعمل على توقيف بعضهم في بعض الأوقات. ولعل مصدر القلق الداخلي عند معظم الأطراف اللبنانية ينبع من عدة أسباب تخص كل طرف من الأطراف اللبنانية. فالحكومة والجهاز الرسمي اللبناني يخشى من انتقال التوتر إلى البلد وتفجير الأوضاع على هذه الخلفيات التي جعلت قسمًا من اللبنانيين يؤيدون الشعب وثورته، وقسمًا آخر يقف إلى جانب النظام لاعتبارات خاصة به، وتدرك القوى الرسمية عجزها عن وضع حد لأي انزلاق نحو الفتنة والمواجهة، وبالتالي فإنها تحاول قدر الإمكان التقاط العصا من وسطها عبر سياسة النأي بالنفس التي تكاد تكون أفضل سياسة حالية تخدم المصلحة اللبنانية العليا باعتراف كافة الأطراف في مجالسهم الخاصة. في الطرف الأول يقف مجموع كبير من الشعب اللبناني المتعاطف مع شقيقه الشعب السوري كما تعاطف مع الشعوب العربية الأخرى التي طالبت بحريتها، وهؤلاء يعملون على تقديم الدعم الكامل للاجئين السوريين في لبنان على المستويات المادية والإغاثية، فضلًا عن أنهم يتحركون في تظاهرات متعددة وأنشطة كثيرة دعمًا لصمود الشعب السوري، ورفضًا لما يعتبرونه ظلمًا يحلق به. ناهيك عن أنهم يشكلون خطًا دفاعيًا عند اعتقال أو توقيف أي من الناشطين السوريين على الأراضي اللبنانية، وتضم هذه الشريحة إضافة إلى المزاج العام الشعبي في لبنان، قوى 14 آذار بنوابها وسياسييها، والتيار الإسلامي السني على مختلف توجهاته، لاسيما الجماعة الإسلامية، والتيار السلفي، فضلًا عن مواقف النائب وليد جنبلاط. في حين يقف على الطرف الآخر القوى الحليفة للنظام السوري، والتي تتعاطى مع الأمر على أنه مؤامرة تستهدف سوريا لدورها وموقعها في جبهة الممانعة والمقاومة، ويقف في مقدمة هؤلاء حزب الله واليتار العوني وبعض حلفاء سوريا الآخرين، في حين تحاول حركة أمل الشيعية الوقوف في منطقة الوسط، منضمّة بذلك إلى الرئيسيين ميشال سليمان ونجيب ميقاتي. وقد وُجهت الاتهامات لهذا الفريق المؤيد للنظام في سوريا بالضلوع في الأعمال العسكرية داخل الأراضي السورية، من دون تقديم أي دليل أو برهان حقيقي على ذلك، وإن كانت بعض الأطراف تستشهد أحيانًا ببعض الجنازات لشباب من هذا الفريق يتم تنظيمها بشكل سري وبعيدًا عن الإعلام من دون أن يعرف المكان الذي قتلت فيه ولا الظروف التي ذهبت ضحيتها. هذه الأجواء المشحونة في لبنان، جعلت الجميع يقلق من انفلات الوضع الأمني في البلاد، وهو ما دفع العديد من هذه القوى للتحرك على أكثر من صعيد وجبهة لمواجهة أي محاولة لانفلات الوضع، خاصة في ظل اختلال توازن القوى في المنطقة على أكثر من صعيد، وقد لاحظنا كيف باشرت الأطراف في المرحلة الأخيرة حوارًا بأكثر من اتجاه للجم أي محاولة للفتنة، وفي هذا السياق تندرج اللقاءات التي عقدت بين قيادات في فريقي 14 و8 آذار، وكذلك ورقة التفاهم بين الجماعة الإسلامية وحركة أمل، وكذلك الحوارات التي تجري أيضًا بين الجماعة وحزب الله، وبين حزب الله وتيار المستقبل بوتيرة أقل، وبين كافة المكونات، بعد تراجع مواقف العديد من الأطراف التي كانت تجاهر بمساعدة النظام السوري وتدعمه في حملته الأمنية. كما وأنه في هذا السياق يأتي الاشتباك المحدود الذي حصل في مدينة طرابلس بين منطقتي جبل محسن ذات الكثافة السكانية "العلوية" وبين منطقة التبانة ذات الكثافة السكانية "السنية"، على خلفية الأحداث الجارية في سوريا، وقد سارعت كل الأطراف في المدينة إلى سحب فتيل التفجير، وبدأت مساعٍ حثيثة لوضع حد للاشتباك الذي اشتعل، وتداعت إلى اجتماع في دار الإفتاء في مدينة طرابلس برعاية مفتي المدينة مالك الشعار لوضع حد لأعمال الفوضى، وأكدت دعمها للجيش اللبناني الذي اتخذ تدابير احترازية تمنع تكرار هذه الاشتباكات، وتتعهد بالتعامل بحزم مع المخلين بالأمن، وكل ذلك بغطاء من كافة الأطراف. وأما عن الاشتباك فقد وضعه البعض في خانة حالة التوتر والاحتقان والتعبئة التي بلغتها الأجواء والنفوس، وقد جاء لينفس هذا الاحتقان، في حين وضعه البعض الآخر في خانة الرسائل التي أراد فريق معين إرسالها لابن المدينة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وهو على أعتاب درج قصر الإليزية في فرنسا، نظرًا للمواقف التي بدا ميقاتي يبتعد فيها عن حليفه السوري. في سياق آخر نفذ الجيش اللبناني انتشارًا في المنطقة الحدودية في شمال لبنان مع الحدود السورية بعد ورود معلومات عن استعدادات سورية لاقتحام المنطقة الحدودية اللبنانية في ظل الحديث عن وجود مجموعات تابعة لما يعرف ب "الجيش السوري الحر" فيها، إلا أن بيانات الجيش اللبناني نفت وجود هذه المجموعات، وقطعت الطريق على مثل هذا السيناريو، وهو ما ترك حالة من الارتياح في القرى والبلدات الشمالية، في حين أكدت القيادة العسكرية أن انتشارها لا يستهدف المدنيين بعدما سرت شائعات عن قلق وتوجس من الأهالي ومن ضيوفهم من اللاجئين السوريين بأن الخطوة تستهدفهم. باختصار يمكن القول: إن لبنان في هذه المرحلة يمارس على كافة المستويات الرسمية والسياسية والعسكرية والحزبية والشعبية سياسة حافة الهاوية المعبر عنا ب "النأي بالنفس" بانتظار ما سيجري في سوريا، ويبقى القلق سيد الموقف عند كل الأطراف بالنظر إلى الحسابات الخاصة عند كل فريق، ولكن يبقى الأمل في أن اللبنانيين هذه المرة قرروا – وكما يبدو- أن يتعلموا من دروس الحرب الأهلية المشئومة التي ضربت بلدهم مدة خمسة عشر عامًا دفعوا فيها ضريبة غالية، فحكّموا إلى الآن العقل والحكمة والمنطق، بل راحوا يعملون لمواكبة الربيع العربي شيئًا فشيئًا كلما تكّرس على أرض الواقع معادلات جديدة تؤكد أن الشعب السوري سيقرر مصيره بنفسه ويرسم مستقبله في النهاية. المصدر: الإسلام اليوم