زرت الغردقة مؤخراً، وجاشت فى نفسى الذكرى حيث أمضيت شطرا من حياتى فى هذه المدينة الزاهرة، التى تحوى الخير كله.. من شاطىء فيروزى جميل وطويل، وموقع عبقرى فريد، ودماثة أخلاق أهلها الذين جاءوا من الصعيد وبالتحديد من مدينة قنا، وثروة معدنية متنوعة من الذهب والفوسفات والصخور الذى لا يوجد لها نظير فى مصر...وقد التقيت خلال هذه الزيارة بالعديد من الأعلام سوف نتناول أحدهم وهو الأستاذ إبراهيم مبارك خطاب الموجه العام للغة العربية والمواد الشرعية بمديرية التربية والتعليم بالبحر الأحمر- سابقا- والخطيب المفوه الذي لا يشق له غبار، ابن مدينة فقط والذي ولد فيها فى يناير 1952م، وهى المدينة التي أنجبت العديد من الأعلام عبر عصور التاريخ المختلفة، وازدهرت كبقعة ثقافية في العصر الأيوبي والمملوكي، على رأسهم الوزير جمال الدين القفطى، صاحب التصانيف الغزيرة في النحو وأعلامه أشهرها "أنباه الرواة في طبقات النحاة"، وكان أن وضعه خطاب نصب عينيه، وجعله المثل الذي يحتذي به عندما التحق بدار العلوم في عام1972م، ليتفوق في علوم العربية والشريعة الإسلامية، في وقت كانت الكلية تعج بالعشرات من الأساتذة الذين أثروا حياتنا الأدبية واللغوية منهم الأساتذة الدكاترة: كمال بشر، وعبد الصبور شاهين، وأمين السيد، وأحمد علم الدين، وأحمد الحوفى، وإبراهيم العدوى، وعبد الحكيم بلبع، وأحمد هيكل، والطاهر أحمد مكي، ومحمد كمال جعفر، وعبد الله شحاتة، وغيرهم. وتمثل فترة دار العلوم أخصب فترات حياته وعندما كان ينزل القاهرة يطوف حول المبنى القديم بشارع المبتديان بالسيدة زينب، وكأن هذا المكان مكان مقدس، ومن طرائف ما يتذكره في دار العلوم إذ يقول: "كان أستاذنا الدكتور أحمد الحوفى يدّرس لنا الغزل في العصر الجاهلي، وذكر أن الشعراء كانوا يهيمون بمحبوباتهم بل إن البعض كان يبكى وينتحب عندما يرى بيت المحبوب وقد هجرته ولم يبق منه إشارة إلا أطلال وأشباح، وبعد انتهاء المحاضرة ذهبت إلى مكتب الحوفى وذكرت له أن هؤلاء الشعراء غير صادقين بل إن عواطفهم تغلب على عقولهم، فقال لي: يا بني (هكذا)، يوم أن يهدم هذا البناء (دار العلوم) سأبكى عليه بكائي على والديّ، وانصرفت وبعد سنين اتخرج من دار العلوم، وأمر في شارع المبتديان، فلم أرها وبدأت أترنى، أين دار العلوم؟ فلم أجدها وإنما وجدت عيني تفيض بالدمع".
أحب إبراهيم خطاب دار العلوم حباً لا مثيل له، وما من مرة جلست فيها إليه لا يكف عن ذكرها وفضائل علمائها، ذاكراً أهم المواقف التي حدثت له ومازال يرويها حتى يهيأ لك أنها حدثت بالأمس، وإذا تذكر أيامها ترى العبرات وقد ترقرقت في مقلتيه، لا يكف الحديث عنها ولا يمل، دائم الاتصال بأساتذته رغم بعد المسافة الزمنية منذ أن تخرج، فهم يدعونه لحضور جلسات مجمع الخالدين (مجمع اللغة العربية)، وهذا الحب ترجم إلى حب العلم والعلماء وحب القراءة وحب الكتب واقتناءها رغم قلة المال، فكان يذهب إلى سور الأزبكية وفى جيبه بضع جنيهات، ويحرم نفسه من ملذات الدنيا من ملبسها ومأكلها ويشترى بالمبلغ كله كتبا في كافة أنواع المعارف العامة وأصبحت هذه العادة تلازمه حتى اليوم، وهو لديه مكتبة قلما تتوفر لدى مدرس، تجاوزت الخمسة آلاف كتاب في كافة دروب العلم، مرتبة ومبوبة ومفهرسة ومنسقة بها أمهات الكتب النادرة التي لا تتوافر حتى في المكتبات العامة بالغردقة.
وعن الدوافع التى جعلته يلتحق بدار العلوم يقول: "ما دفعنى إلى الالتحاق بدار العلوم هو الأستاذ الكبير على الجارم الأستاذ بدار العلوم وعميدها بعد ذلك فى الأربعينات حيث درسنا له قصيدة عن الأمة العربية حفزتنا إلى حب اللغة وإلى معرفة دار العلوم ودخلنا دار العلوم فكانت ملجأى وملاذى وحبى الأول والأخير لدرجة أننا أطلقنا عليها أمنا الرؤوم ورأينا من أساتذتها العمالقة ما فجر فينا من ينابيع الأدب رحم الله من توفى منهم وأعز من كان على قيد الحياة". ويواصل الأستاذ خطاب فى سرد ذكرياته عن فى دار العلوم: "كانت الكلية تقيم احتفالا تستقبل فيه الطلبة الجدد وكانت الخطب المتتالية تقيم فينا حب اللغة وتذوقها فكنا نشعر بالفخار أننا فى دار العلوم ثم بدأت المحاضرات فرأينا أنفسنا لابد أن نحترم دار العلوم بمبناها المتهالك والذى يفوح منه عرق العلماء منذ أن أنشأها على باشا مبارك سنة 1872م ".
في الغردقة جاء إبراهيم مبارك خطاب إلى الغردقة لأول مرة في صيف 1967م وكان طالباً في المرحلة الإعدادية ، جاء كغيره من أبناء محافظة قنا، يعمل في الصيف ليتدبر مصروفاته في الشتاء، وشاهد الغردقة في بداوتها، كان الناس تعرف بعضها البعض، جوها يغرى بالإقامة... ومازال يتردد كل صيف عليها يستمتع بجوها الخلاب، يفضل السير على شاطئها الذي لم يشغل بعد ويزدحم بالقرى السياحية.. كانت المناظر بكراً لم يهاجمها التلوث..الهدوء يسرى في كل مكان.. المياه صافية، تظهر الكائنات البحرية الخلابة بداخلها.
ولما تخرج في دار العلوم عام 1976 معين مدرساً لمدة سنتين في بلدته قنا، ثم دفعه الحنين للعودة إلى البحر الأحمر منذ التاسع من سبتمبر 1979م وحتىإحالته للمعاش فى 2012، مدرساً للغة العربية في المرحلة الثانوية فى مدرسة الشهيد حسن كامل الثانوية، وقد تخرج على يديه كل النابغين فى الغردقة الذين مازالوا يكنون له عظيم التقدير، منهم الأطباء والصيادلة والمعلمين وأساتذة الجامعات وغيرهم..
كانت الحركة الثقافية في الماضي أكثر توهجاً وتأثيراً، وكان قصر ثقافة الغردقة بجمعية الشبان المسلمين قبل أن يذهب إلى مكانه النائي الآن ويخاصمه الجميع ، وانطفت جذوته التي كانت في شعلة لا تنتهي، المهم كان القصر لا يخلو صباحاً ومساءً من المحبين للقراءة، تعقد الندوات ، يشارك فيها كثير من الأدباء مثل:الشاعر جلال الأبنودى ، والشاعر محمد كمال هاشم، والشاعر أحمد عمر، والشاعر رمضان الخطيب، وكانوا من قصر الثقافة يتبادلون الزيارات مع المواقع الثقافية الأخرى بالمحافظات في ندوات وأمسيات شعرية .
كانت مديرية الشباب والرياضة بالبحر الأحمر تشارك في هذه الأنشطة والنهضة الأدبية والثقافية بقيادة رجل عرف عنه حب العلم ودعم الثقافة هو الأستاذ إسماعيل طلبه مدير المديرية في ذلك الوقت(1979) كان الرجل يقدر أصحاب الأنشطة، وكان إبراهيم خطاب يساهم في هذه الأنشطة، مما رشح لأداء العمرة في هذا التوقيت، وقد رافقه المعلم الفاضل محمد بغدادي، واللواء جمال نظيم مؤسس نادي الرياضات البحرية، ونزلوا في التكية المصرية بالمدينةالمنورة، وبسبب هذا التكريم توهج الإبداع بداخله وانضم إلى موكب الأدباء والشعراء وخطباء المساجد في محافظة البحر الأحمر، والجدير بالذكر أن إبراهيم مبارك خطاب يمارس الخطابة منذ أن كان طالباً في العلوم وحتى الآن، ومن ضمن هذه المشاركات الثقافية أبحاث قدمها إلى وزارة الشباب والرياضة في مسابقة بعنوان "مصر السلام"، و "مصر عروبة وإسلام" وقد كرمته فيهما الدولة إذ سلمه الجائزة الدكتور فؤاد محي الدين رئيس مجلس الوزراء آنذاك.
ويتذكر إبراهيم خطاب أن عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كان أفضل بكثير من الآن لإخلاص المعلمين وعدم انشغالهم بأعمال أخرى لا تمت للحقل التعليمي بصلة بالإضافة إلى الانغماس في الدروس الخصوصية التي أضعفت من هيبة المدرسة كمؤسسة تربوية وتعليمية .ولعل في هذا التصريح رسالة واضحة إلى ولى الأمر لمراقبة الكوادر البشرية للتعليم لإعادة النظر في العملية التعليمية فمن يتدن إلى المستويات الدنيا يلقى الجزاء ويحاسب على تقصيره كما شاهدنا وعرفنا في دول أقل شأنا منا وتعليما ونقلوا خبراتنا وسبقونا.
ولقد لقي الأستاذ خطاب العديد من صور التكريم، إذ انه مشارك متميز في الأنشطة منذ أن كان طالباً في دار العلوم، وقد فازت الأبحاث التي قدمها بالمراكز المتقدمة في الهيئات التي شارك بأبحاثه فيها مثل المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ومنها (من أخلاق النبي)، و(أم المؤمنين خديجة بنت خويلد)، وقد نُشرت الأسماء الفائزة بجريدة الأخبار في هذا التوقيت، وسلمه الجوائز الدكتور عبدالعزيز حجازي رئيس الوزراء، والإمام الأكبر عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، والسيد محمد توفيق عويضة أمين عام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وهذا النبوغ المبكر كان ينم عن استعداد فطرى سليم، وذكاء خارق، واجتهاد غير عادى، مما حدا برئيس قسم النحو والصرف بدار العلوم الدكتور إبراهيم السيد لترشيحه معيداً لولا ظروف خاصة تعرضت لها الكلية فلم تقبل معيدين في هذه السنة، وقد كرمته جهات أخرى مثل: كلية دار العلوم، ووزارة التربية والتعليم، واللجنة الدولية للصليب الأحمر بمصر، والحرس الوطني بالمملكة العربية السعودية، وغيره، إنه مثال جيد يجب الإقتداء به.