هناك اثنان من الرجال من إقليم البحر الأحمر تميزا في كتابة تاريخه عبر العصور، الأول هو كمال الدين حسين همام، لولا أن جهده وكتاباته انصبت على التأريخ لمدينة القصير وجنوبها من المدن مثل:"حلايب"، و"عيذاب"، و"الشلاتين"، ودراسته الرائعة عن الشيخ أبوالحسن الشاذلي، وكان يجنح في كتاباته إلى التخصص والاعتماد على الوثائق والمراجع والمصادر والمظان، وقد ترجم الكثير من الوثائق الموجودة بالمكتبات الكبرى خلال سفرياته المتعددة للدول الأوربية، وأضاف بذلك الكثير من المعارف عن الإقليم، وقد خلّف لنا العديد من الأبحاث والكتب منها:"مجمل تاريخ القصير"، و"القصير تناديكم"، و"بونابرت والقصير"، و"عيذاب"، و"حلايب مصرية" وغيرها. والشخصية الثانية هي محمد رفيع الذي ولد بمدينة الغردقة عام 1945م لأسرة عربية تنتمي إلى قبيلة العرينات، تعلم في المدارس الإلزامية بالغردقة، وكان منذ الصغر يمتاز بالذكاء، يدرك كل شيء ويسجله في وجدانه وعقله وكأنه كان يعلم أنه بتلك التسجيلات سيدونها في كتبه يوماً ما، وقد اعتمد فيها على مشاهداته والروايات التى كان حريصاً على تتبع خيوطها، يذهب إليها في أي مكان مهما كلفه ذلك عناء، ينتقى منها القوى بعد أن يتجاهل الروايات الضعيفة التي تتناقض مع الواقع التاريخي، وكان يجلس إلى الكبار باستمرار يستمع إليهم باهتمام وتركيز.
وفى بداية الخمسينيات ظهر البترول في "رأس غارب" فهاجرت بعض الأسر ومنها أسرته من الغردقة إلى عاصمة النفط في مصر، وكان أن عمل والده في شركة "آبار الزيوت الإنجليزية المصرية" التي عهد إليها بالكشف عن البترول في البحر الأحمر، وقد كونت العائلات هناك روابط اجتماعية وأسر، مما ساعد على الاستقرار في هذه المدينة الصحراوية الجافة، وشاهد رفيع عن قرب تلك التطورات ودونها في ذاكرته، وقد تحدث عن هذه المدينة بشيء من التفصيل في كتابه: "موسوعة البحر الأحمر" الجزء الأول، الذي ظهرت الطبعة الأولى منه في عام 2005م.
كان والده رجل يحب المثابرة والجد، فعلم أولاده جميعا تعليماً عالياً، مْن منا لا يتذكر أخوته: سعيد، وعلى من رواد الحقل الثقافي، فسعيد روائي وقاص وهو أول من رصد الظواهر الاجتماعية وتعرض لإقليم البحر الأحمر في أعماله القصصية مثل: "البربونى يتجه شرقا"، و"نزوة تمرد"، و"أفيدونا عن الجمل" بالإضافة إلى كونه كاتباً ساخراً يمتلك أدواته بحرفية رائعة، وهو مشهور في كل الأوساط الأدبية.. يشرف الإقليم دوماً في كل المحافل.
والأخ الآخر (على) المعلم المثالي في البحر الأحمر، وأول من نال درجة الليسانس في اللغة الإنجليزية وآدابها على مستوى المحافظة من جامعة القاهرة في بداية الستينيات وهو والد الكاتب الروائي محمد على رفيع الصحفي بدار الهلال.
محمد رفيع مؤرخاً: للمؤرخين الهواة دور حيوي لا يقل أهمية عن دور المؤرخ الأكاديمي، لهم بصمة واضحة وإضافات في أعمالهم ومنهم من وصل درجة عالية من العطاء مثل محمد عبدالله عنان، الذي كتب أعظم موسوعة وضعت عن الأندلس، والمؤرخ الوطني عبدالرحمن الرافعي، وموسوعته "تاريخ الحركة القومية" في 16مجلداً، والزعيم أحمد حسين صاحب موسوعة "مجمل تاريخ مصر"، وغيرهم كثير، أعجب محمد رفيع بالتاريخ مبكراً فكان يحرز فيه أعلى الدرجات، بالإضافة إلى إطلاعه الواسع في هذا المجال، فرأى ندرة الكتابات وانعدامها عن البحر الأحمر فسخّر هذا الحب والعشق للتاريخ وصمم على ارتياد الصعب من المسالك وأخذ يراجع ما يدونه بذاكرته، ورجع إلى المصادر الرسمية وأضابير المصالح الحكومية بمدن البحر الأحمر المختلفة، وعقد الجلسات الطويلة مع المعمّرين وكانت باكورة أعماله "موسوعة البحر الأحمر" في جزأين، صدر الأول تناول فيه تاريخ مدن الغردقة ورأس غارب والسخنة والزعفرانة.
وتحدث في هذا الجزء عن نشأة هذه المدن ومكانتها في التاريخ، وتعرض للتركيبة السكانية لهذه البلاد و تطور إنتاج البترول بدءً من شركة "آبار الزيوت"، و"شلّ" وتأميم تلك الشركات بعد ذلك عقب العدوان الثلاثي تحت مسمى "الشركة العامة للبترول"، واستقى معلوماته من المعمرين من هذا الإقليم ومن أرشيف تلك الشركات ومن مقابلات مع المسئولين أمثال المهندس: على والى أول رئيس لهذه الشركة ووزير البترول الأسبق، وكذلك تحدث عن الأماكن الأثرية برأس غارب كدير"الأنبا بولا" ودير"الأنبا أنطونيوس" والفنار الشهير الذي صممه المهندس الذي بني "برج ايفل"، وتحدث عن الزراعة في قرية "وادي دارا" والتعدين بالمدينة.
ثم عرج رفيع للحديث عن عاصمة السياحة في مصر وهى مدينة الغردقة، ذات الجو البديع الخلاّب، وعن أصل تسميتها، وتعدد الآراء حول هذه التسمية منها: ما هو راجع إلى كثرة نبات الغردق بها، أو أنها متخذة من الإله الفرعوني حور، وكذلك تحدث عن بداية إنتاج البترول بها، فأول حقل بترول ظهر بمصر في منطقة "الجمشة" شمال الغردقة وزيادة الآبار حتى وصلت إلى 142 بئراً، ولكن البترول نضب تدريجيا بالغردقة، حتى ردم آخر آبارها منذ سنوات، وعوّض الله الغردقة عن البترول خيراً، إذا سرعان ما اشتهرت عالمياً في مجال السياحة في بداية الثمانينيات، في عهد الفريق يوسف عفيفي.
وكذلك تحدث في هذا الجزء عن أوائل الناس الذين أتوا الغردقة وبالتحديد في العام 1905م وكانت الغردقة قبل التاريخ لا يوجد بها سكان، فجاء هؤلاء النفر من الصعيد وأكثرهم من مديرية قنا وعملوا في مجال الصيد وفى مجال البترول، وكم عانى أوائل الناس من شظف العيش وتحملوا المشاق عن طيب خاطر، ولولاهم لتأخر ظهور الغردقة ككيان سكاني سنوات طويلة، ويستمر محمد رفيع رحلته لتاريخ الغردقة فيتحدث في فصل آخر عن شخصيات من الغردقة مثل الدكتور حامد جوهر رائد علم البحار الذي أسهم بدور فعال في تطوير "محطة الأحياء المائية" بالغردقة وأنشأ متحف علوم البحار به وكذلك المكتبة العظيمة أيضا التي كان يؤمها صفوة الباحثين.
وتحدث أيضا عن التطور السكاني بها، والتوسع الأفقي للمدينة، ثم عن تجربة الفريق يوسف عفيفي في لفت الأنظار إلى الغردقة ككيان سياحي، لا يزال يشكل عصب الاقتصاد القومي، ويوفر مئات الألوف من فرص العمل، فهو أعاد تخطيط مدينة يعاونه الدكتور سيد كريم، واهتم بالتنمية السياحية، وذلل العقبات أمام المستثمرين، وفى عهده تم إنشاء العشرات من القرى السياحية، بدايةً من قرية "عربية"، و"شدوان" إلى انتشار القرى السياحية، ومازالت الغردقة تتقدم حتى بلغت الأوج في عهد اللواء أ.ح سعد حسن أبوريده الذي خطى بها خطوات خلال توليه المسئولية، وتحدث رفيع عن وسائل الإعاشة بالغردقة منذ إنشائها ، فكان الوصول للغردقة من عدة جهات عبر طريق قنا - سفاجة، ومن السويس عبر المركبة "جانيرا"، التي كان يتم انتقال المواد الغذائية ووسائل الإعاشة عبرها إلى رأس غارب والغردقة، ثم توزع على المحال من خلال سيارة قاسم سباق، وهى سيارة عتيقة ماركة "فورد"، حاولت شركة فور العالمية إغراء سائقها ومالكها سباق باستبدالها بسيارة أخرى، وأخذها لتعرض باسمه في متحف الشركة، ولكنه رفض التفريط ومازال يحتفظ بها للآن..
ونحن ننتظر الجزء الثاني على أحرّ من الجمر، حتى يستوي الموضوع على سوقه، والحق يقال أن تاريخ محمد رفيع للإقليم هو باكورة الأعمال التاريخية على نحو شامل وأعم، فنجح عما فشلت الجهات الأكاديمية التي لم تتعرض له في دراسة شاملة برغم وجود كلية التربية بالغردقة وقسم التاريخ بها منذ أكثر من عشر سنوات.
هذا وقد تعرض رفيع لتاريخ القبائل العربية وأوضاعها في مؤلف مستقل بعنوان "القبائل العربية فى البحر الأحمر" تناول فيه هذه القبائل بشيء من الإيجار علّه يتوسع فى هذا الموضوع مستقبلا، وله تحت الطبع كتب "التركيبة السكانية في محافظة البحر الأحمر" و"شخصيات من البحر الأحمر".
كما أسس محمد رفيع جريدة "أخبار البحر الأحمر"، وصدر العدد الأول في أكتوبر 1999م، وكانت أول صحيفة إقليمية تصدر في المحافظة، وجهده هذا لم يأتي بغتة ، فقد عمل في العديد من الصحف ك:"الأحرار" و"الوفد" و"الدستور"، وخبر هذه الصناعة، وبدأ بصحيفته قوياً ودفعها بخطى حثيثة نحو التقدم والازدهار، ومازالت تنتقل من نجاح لآخر، وقد تخرج من خلالها جيلاً قوياً من الإعلاميين الذين تدربوا فيها على الصدق وتحرى الحقيقة.