أتابع كغيري من المنتمين لهذا الوطن ما يتعرض له من أزمة اقتصادية طاحنة، وموجة غلاء فاحشة، والتي هي في نظري نتيجة طبيعية لحالة الركود الاقتصادي والسياسي التي تشهدها البلاد، ولحالة مماثلة من قلة الرغبة في العمل والإنتاج ، وفقدان الانتماء والدافع لكثير من فئات المجتمع. والمتابع لوسائل الإعلام المختلفة يدهشه كثرة المحللين الاقتصاديين –زعموا- الذين يحاولون –دون جدوى حتى الآن- إيجاد مخرج لهذه المعضلة الكبيرة، ومن بين هذه المخارج التي تفتقت عنها أذهان هؤلاء الجهابذة: ما يتعلق بأموال الأوقاف، من الدعوة لإنشاء لجنة عليا لإدارة أموالها، إلى أخرى مماثلة لاستبدال أراضيها التي تقع في أماكن مميزة في كل المحافظات بأراض أخرى في الظهير الصحراوي لكل محافظة، وما إلى ذلك من اقتراحات. وينظر هؤلاء الناس جميعاً إلى هيئة الأوقاف على أنها منجم ذهب خالص، أو مغارة علي بابا المليئة بالمجوهرات والياقوت والمرجان، وأخشى أن يكون هؤلاء هم الأربعين حرامي الذين يتحينون الفرصة للدخول إلى المغارة والسطو على ما بها من كنوز!!! والعجيب أن هؤلاء جميعاً يتحدثون عن أموال الأوقاف كأنها ملك لهم، وكأنها أموال ضائعة لا مالك لها ولا محاسب، وهذا الأمر من وجهة نظري عليه بعض الملاحظات: أولاً: أين حرمة هذه الأموال التي أخرجها أصحابها من ملكيتهم الخاصة طائعين مختارين ليحققوا بها نفعاً عاماً لعموم المسلمين؟ وهل من سلطة الدولة أن تتصرف فيها بحرية مطلقة دون مراعاة لشروط أصحابها؟ وأين رأي رجال الشريعة في هذه الدعوات التي تضرب بمبدأ استقلالية أموال الأوقاف، ومراعاة شروط واقفيها ما أمكن عرض الحائط؟ إن فقهاءنا الأكابر –رحمهم الله ورضي عنهم- قد صاغوا قاعدة عظيمة بهذا الصدد، وأوصلوا شروط الواقفين إلى مرتبة نصوص المشرِّع، فقالوا: إن شرط الواقف كنص الشارع في لزومه ووجوب العمل به، وكأني بهم –رحمهم الله- يحاولون حماية هذه الأموال التي تكفل الحريات العامة وتصونها، وتفي بكثير من الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع وتوفرها. وأعلم أن هناك من يرى وجوب المرونة عند النظر في شروط الواقفين، وأنه ينبغي تجديد النظر فيها وفي مصارف الوقف بصفة مستمرة لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الوقف، خصوصاً مع تباعد الزمن وتطور الحياة والنظم الاجتماعية، ولكن هذه المرونة لا ينبغي بحال من الأحوال أن تَكِرَّ على أصل الوقف بالهدم، ولا أن تتسبب في تبديد أصول الأوقاف، بل إنها تكون دائماً في خدمة تحقيق مقصد الواقف، ودون مساس بأصل الوقف، ولهذا فإن أحداً من العلماء المعتبرين لا يقول بجواز التصرف في أصل الوقف، ولا بجواز استبداله بغيره إلا إذا كان غيره أفضل منه. ولو علم أصحاب الأوقاف أن أموالهم وثرواتهم سوف تتعرض لما تعرضت له الآن من نهب وتبديد لما أوقفوها، فماذا سنقول لهم عندما نجتمع أمام الله –عز وجل-؟ وهل يرضى أي واحد من هؤلاء الجهابذة أن تستبدل أرضه أو شقته التي تقع بمكان مميز بأخرى في أطراف المدينة خدمة للدولة؟ ثانياً: إن من الأمور الملفتة للنظر أيضاً أن هذه الدعوات جميعاً إنما تتعلق بأوقاف المسلمين خاصة، متمثلة في هيئتها ووزارتها، ولا تقترب أبداً من أوقاف الإخوة الأقباط، الذين هم شركاء في الوطن، والذين يؤلمهم ما يؤلمنا من وضع اقتصادي بئيس، ولا أرى أنهم سيتأخرون أبداً عن تلبية نداء الوطن إذا طالبهم بضرورة إدخال هذه الأوقاف إلى خزينة الدولة، أو تشكيل لجنة لإدارتها كما فعل بأوقاف إخوانهم المسلمين؛ فلماذا يتم استثناؤهم من هذه القرارات؟!! ثالثاً: هل يظن هؤلاء أن التصرف في أموال الأوقاف بهذه الطريقة البشعة سوف يحل مشكلة في الواقع؟ أو أنه سوف يكون سبباً لنزع فتيل الأزمة الاقتصادية الحالية؟ إن أكل أموال الناس بالباطل لا يمكن أن يكون سبباً للعمران، وإن عقاب الله سبحانه وتعالى لمستحلي هذه الأموال سوف يكون دنيوياً بنزع البركة منها، وأخروياً بالعذاب الشديد يوم القيامة؛ خصوصاً أن هذه –في معظمها- أموال أيتام وضعفاء، وقد حذر الله عز وجل من ذلك تحذيراً شديداً حيث قال: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً". وختاماً أقول: إن من واجب العلماء أن يقوموا بواجب البلاغ، ومن واجب متخذي القرار أن يستمعوا لهذا البلاغ ويضعوه موضع الاعتبار، وأنا من منطلق دوري كمتخصص في الشريعة الإسلامية أناشد القائمين على أمر الأوقاف بوجوب اتباع القواعد والأحكام الشرعية، وبتعظيم الاستفادة من أموال الأوقاف لصالح الفقراء والضعفاء والمحتاجين لا لصالح الدولة، فالدولة تستطيع أن تفي بالتزاماتها واحتياجاتها، أما هؤلاء فمن لهم؟؟ كما أحذر من مغبة الاعتداء على أموال الأوقاف، وأنها أبداً لن تكون حلاً لمشكلات الدولة الاقتصادية، بل إنها ستكون سبباً للخراب والدمار، ولمزيد من النكبات والعثرات؛ لأنها من أكل أموال الناس بالباطل، ولذلك أقول: احذروا لعنة الأوقاف، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. الدكتور/ أحمد لطفي شلبي مدرس الفقه بجامعة الأزهر الشريف