من أبرز فوائد محاولة الانقلاب الفاشل أنه يمكن القول إن تركيا قد بدأت القطيعة مع الانقلابات العسكرية وتراثها المرير، وأن طريق تركيا الدولة المدنية قد صارت سالكة، زمن مغامرات العسكر في التلاعب بالإرادة الشعبية وإلغائها مع البيان الأول ولى بنسبة كبيرة تجعل من الصعب تكرار الفعل الانقلابي، هناك متغيرات مهمة أفرزتها أحداث ليلة الجمعة/السبت الماضية تجعل المؤسسة العسكرية والأمنية تواصل طريقها نحو المهنية بعيدا عن التربص بالحياة السياسية، والتدخل فيها لتغييرها عنوة عبر الدبابات والطائرات، كما تجعل صفوف الرتب الأقل تفكر كثيرا وطويلا قبل أن تُقدم على مغامرة جديدة تكون عواقبها فادحة على تركيا وشعبها ومنجزاتها واستقرارها السياسي ونظامها الديمقراطي، كما تجعلها تستوعب نتائج درس فشل حماقة من سبقوهم ومصيرهم البائس. لو كان انقلاب 15 يوليو 2016 حقق هدفه، لكان ذلك يعني أن طريق الانقلابات ستظل مفتوحة دون نهاية، لأنها دائرة جهنمية لا تتوقف، وتغري على مزيد من الدوران، حيث سيظل عقل المؤامرة قائما يخطط لجولة أخرى من الانقلاب على الانقلاب، ومن تتبع تلك المسيرة المدمرة نجد أن انقلاب 1960 كان الأول في هذا البلد على الحكومة المنتخبة، ولكنه لم يعد الوحيد ولا الأخير إذ أعقبه انقلابان صريحان في 1971 و1980 ثم انقلاب أبيض عام 1997، ومع حكم حزب العدالة والتنمية حدثت محاولتان في 2009 و2010 لكنهما لم يأخذا طريقيهما للتنفيذ فقد تم اكتشافهما وإحباطهما، والمحاولة الحالية هى السابعة في تلك السلسلة وقد خرجت للتنفيذ لكنها فشلت وأنقذ الله تركيا وشعبها من مصير مجهول مؤلم ومن العودة للوراء وفقدان كل ثمار التنمية التي تحققت في العقد ونصف العقد الأخير. 1 - الشعب التركي هو العامل الأول في وضع نهاية لتاريخ من الانقلابات العسكرية بما فعله في مواجهة انقلابيي 15 يوليو، خرج الشعب وصد وواجه وسقط منه ضحايا، دافع عن نفسه بحشوده، حمى حريته وديمقراطيته وعبر عن إرادته في قلب الخطر، لم يسمح لمجموعة ضباط أن يسلبوه حقوقه القانونية والدستورية في اختيار من يحكمه وفي تحديد شكل نظامه السياسي، أثبت الشعب وعيا هائلا، كانت أعلام تركيا هى التي تُرفع في الميادين والشوارع، تلك رسالة بليغة من لا يفهمها فهو نموذج للغباء الإنساني إذا فكر في كسر إرادة هذا الشعب مجددا، في الانقلابات السابقة لم يحدث شيء من هذا الاحتجاج، وهذا كان يغري المغامرين بالتكرار، الوضع هذه المرة كان مختلفا، هناك أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية أفضل كثيرا من ذي قبل، تحققت في ظل حكم مدني ديمقراطي وعمل متواصل لصالح الناس لذلك هبوا لحماية حاضرهم ومستقبلهم خشية أن تعود حياتهم في ظل جنرالات جدد إلى بؤوس وفقر وفساد وتدهور مرة أخرى. رسالة الشعب حاسمة وقاصمة لمن قد يفكر في التلاعب به وتهميشه وإلغاء وجوده وتنصيب نفسه وصيا عليه. 2 - المؤسسة العسكرية لم تخطط وتنفذ ككيان متكامل للانقلاب هذه المرة، إنما أقلية داخلها، ليس كل القادة الكبار، وليس كل القادة والرتب الوسطى والصغرى، إنما مجموعات من كل مستوى، بعكس المرات السابقة حيث كان القرار فوقيا جماعيا من أصحاب القرار في المؤسسة، أعلى رتبة في هذه المؤسسة وهو رئيس الأركان رفض الانقلاب وتم احتجازه حتى تحريره، وهذا مطمئن لأن رئيس الأركان كان فاعلا رئيسيا في إطاحة الحكم المدني في السابق، وهناك قادة جيوش وأسلحة مؤثرين رفضوا الانقلاب، وأحدهم أبلغ الرئيس أردوغان قبل ساعة من حدوثه عندما علم به وهذا ساهم في مغادرته الفندق الذي كان يقيم فيه والذي ذهب إليه الانقلابيون وقصفوه وطوقوه لقتله أو اعتقاله، واضح أن المؤسسة تطورت أو تغيرت واقتنعت بأن دورها مهني احترافي بالأساس وأن مواصلة الدور السياسي المهيمن على الحياة المدنية وعلى الحكم المنتخب سيضر بها وبتركيا كثيرا، واعتقد أن فكرة الانقلاب بنفس الكيفية التي كان يتم بها في السابق قد انتهت في العقل الجمعي الفاعل في تلك المؤسسة، بدليل أن المشاركين في العملية الأخيرة لم يكونوا يمثلونها كلها، بل مجموعات محدودة فيها. 3 - بروز دور جديد لافت لجهاز الشرطة وأجهزة المخابرات، فهى من تصدت بالسلاح والمواجهة المباشرة لقوى الانقلاب في أنقرة وإسطنبول والمدن الأخرى، وهذا تطور مثير لم يحدث من قبل حيث كان الجهاز الأمني يصطف مع المكون العسكري عندما كان يطيح بالسلطة المنتخبة ويبقى في ركابه ويصير أذرعه وأدواته في فرض السيطرة الداخلية والسهر على تطبيق الطوارئ والأحكام العرفية، كما أن الشرطة والمخابرات وبطبيعة تسليحهم المحدودة لا يكونون قادرين على إخضاع قوات من الجيش بأسلحة ثقيلة، ولكنه حدث ذلك هذه المرة، وكان مدهشا أن قوات الشرطة هى من تسيطر على الضباط والجنود بدباباتهم في الميادين والشوارع، وهى من تقتادهم إلى السجن، وهى من تعتقل القادة الكبار، دافعت الشرطة والمخابرات عن الشرعية الدستورية وعن الديمقراطية، وهذا مطمئن في مسألة فهم المكون الأمني لطبيعة دوره ووظيفته ولقضية الديمقراطية والحياة المدنية واحترام إرادة الشعب، بالطبع وجود المواطنين خلف قوات الشرطة وفر دعما مهما لها وسهل مهمتها في السيطرة على مجموعات الانقلاب. مرة أخرى وقع المحظور الانقلابي، وتم تجاوزه، وستتم القطيعة معه، لكن مع ذلك فالحذر الدائم واجب، حيث تبقى ولو نسبة واحد في المائة قد تدفع في لحظة غياب للعقل والحسابات من يغامر مجددا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.