تقول الحكاية إن الأمير سأل كونفيشيوس(551-479 ق.م) ذات يوم عما يجب فعله لرفع مستوى الناس.. فقال الفيلسوف (لتحقيق ذلك لابد من وضع الألفاظ فى مواضعها) وأخذ يشرح له ذلك قائلاً (حين لا توضع الألفاظ فى مواضعها تضطرب الأذهان وحين تضطرب الأذهان تفسد المعاملات وحين تفسد المعاملات لا يدرى الشعب على أى قدميه يرقص ولا ماذا يفعل بأصابعه العشرة ) .. ويبدو لى ولكثير ممن قرأ مقال الأستاذ الدكتور احمد عبد ربه المنشور فى الشروق الأحد الماضى 10/7 أن قدرًا هائلاً من عدم وضع الألفاظ فى مواضعها قد حدث فى هذا المقال.. والدكتور أحمد على فكرة من العقول الأكاديمية النابهة الواعدة لكنه للأسف الشديد فاجأنا الأسبوع الماضى بما كتب تحت عنوان (وعى إسلامى مختلف_حتى لا يعود الإسلام غريبًا) حمل فيه على الإسلام لعدم تعرفه على المسلمين المعاصرين!! هكذا بدأ المقال.. الذى كانت نهايته أشد تحاملاً على الإسلام (الذى لم يعد مختلفًا ولا متطورًا ولا معاصرًا لأنه لم يستطع _الإسلام!!_ أن يتكيف تاريخيًا ولا بشريًا ولا مجتمعيًا ولا هيكليًا.. وأن المسلمين ليسوا مذنبين لأنهم ابتعدوا عن الدين ولكن الدين هو المطالب بأن يقترب من المسلمين ويتفهمهم وينهى هو_الإسلام!!_غربته عنهم..!!). كان الكلام ولا يزال يدور حول تجديد فهم المسلمين للإسلام وهذا أمر مفهوم وحدث ويحدث وسيحدث كل يوم.. أما الحديث بهذا الأسلوب الهجومى مثل القول بأن: على الإسلام أن يقر بالتعددية وعلى الإسلام أن يتوقف عن توبيخ المسلمين المجتهدين وعلى الإسلام أن يحتضن الذين يعانون من ضغوط الحياة المعاصرة وعلى الإسلام أن يتوقف عن مساندة ذوى الحظوة على حساب الآخرين وعلى الإسلام إن يقرر الانحياز إلى الشعب وان يكون إنسانيًا منحازًا للقضايا الإنسانية ..!! هذا كلام خطير جدًا وغير مفهوم من شخص مثل الدكتور أحمد الذى يوجه اتهاماته إلى الإسلام ذاته وليس للمسلمين مثلاً.. مما يفهم بأن الإسلام هو المشكلة (كما يقول برنارد لويس) بل هو نبع المشاكل كلها!! وخطورة هذا الكلام ليست فقط فى القفز على ثلاثة قرون من الجهد الفكرى والعلمى والمعرفى لمئات من العلماء والمفكرين والفقهاء فى التجديد والحركة بالإسلام خلال الزمن المتغير بل فى ابتعاده العلمى والمعرفى عن الحقيقة. ونحن أمام موقف من موقفين إما أن الكاتب لا يعترف بهذا الجهد الهائل للعلماء والمفكرين.. أو أنه لم يقرأه ولم يعرفه وفى الحالتين سنجد أن المطلوب فقط هو القراءة والمعرفة.. ثم إن هذه اللهجة الاتهامية ما هى إلا مدرسة الاستشراق التى واجهها باكتساح وقوة معرفية وتحليلية عميقة الراحل الكبير(ادوارد سعيد).. بل إن من المستشرقين من كان علميًا وموضوعيًا وقدم للمكتبة الإسلامية الكثير من روائع البحث والمعرفة مثل مونتغمرى وات وغوستاف لوبون والمفكرة الألمانية زيجرد هونكه صاحبة الكتاب الشهير (شمس الله تسطع على الغرب) وجوته حبيب الشرقيين الذى سمى الشعراء القرن التاسع عشر باسمه (قرن جوته) وتوماس أرنولد مؤلف كتاب(الدعوة إلى الإسلام) الذى يعتبر من أوثق المراجع فى تاريخ التسامح كما يقول كثير من الباحثين أيضًا برناردشو وإرنست رينان الذى طعن كثيراً فى الإسلام ثم ما لبث ضميره وعقله المعرفى إلا أن قال: الإسلام دين الإنسان.. وفولتير الذى صحح لنفسه من خلال السعى الحقيقى للمعرفة موقفه الخاطئ من الإسلام وقال صراحة إنه كان ضحية الأفكار السائدة الخاطئة ووصف النبى صلى الله عليه وسلم بأنه (هدم الضلال السائد فى العالم لبلوغ الحقيقة) وأضاف قولته الشهيرة (ولكن يبدو أنه يوجد دائماً من يعملون على استبقاء الباطل وحماية الخطأ) هكذا قال عينى عينك!!.. ويفوتنا الكثير والكثير إن لم نذكر المفكر الكبير على عزت وكتابة الأروع دائما(الإسلام بين الشرق والغرب) . سيكون علينا إذًا أن نراجع قليلاً فكرة التجديد فى الحركة بالإسلام عبر الزمن المتغير تاريخيًا والبشر الغادون والرائحون عبر السنين والأعوام.. وسيكون علينا بالتالى أن نذكر رواد التجديد الفكرى العميق وإنتاجهم المعرفى بالغ الثراء والخصوبة .. وعلى الفور ستأتى إلى الوعى حركة جمال الدين الافغانى صاحب الشخصية الدينامية الهائلة والذى كان مفكرًا وسياسيًا من طراز رفيع ثاقب النظر إلى الباطن العميق لتاريخ الفكر والحياة فى العالم الإسلامى إلى جانب أفق واسع فى الرؤية للبشر وعاداتهم وهو الذى دفع رينان إلى إعادة قراءة الإسلام كما ذكرنا سابقًا ..وحين يذكر الأفغانى يذكر صاحبه محمد عبده تلميذه الأكبر الذى وصف أستاذه بأنه (يتمتع بأقصى ما قدر للبشر غير الأنبياء من قوة الذهن وسعة العقل ونفاذ البصيرة هذا فضلاً عن شخصيته ذاتها..). سنذكر بكثير من الفضل والعرفان خير الدين التونسى وشكيب ارسلان والطاهر بن عاشور والطهطاوى والكواكبى ورشيد رضا والبنا وأمين الخولى وزوجته الجليلة د.عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) والمراغى وشلتوت ومحمد ومحمود شاكر وطنطاوى جوهرى وأحمد أمين وقطب والعقاد والغزالى والقرضاوى .. وكل هذه السلسلة الفريدة الذين بدأوا ما لم يكتمل _حتى الآن _من تجديد (أمين) لفهم وتطبيق صحيح الدين ونصوصه.. ولم يزايد عليهم أحد فى هذه( الأمانة ) التى صاحبتهم فى كل أرائهم الواصلة بين الدين والحياة.. رغم المعوقات الضخمة (سياسيا بالأساس) التى واجهت أفكارهم ومشروعهم الكبير فى النهوض بالأمة..كل هؤلاء العظام تركوا إنتاجًا ضخمًا أثرى المكتبة الإسلامية بما يجهله كثير من المتخصصين للأسف الشديد.. ليس فقط المتخصصين فى المجال البحثى بل فى المجال السياسى والحركى أيضًا. وأنا مازلت على رأى الذى ذكرته كثيرًا من قبل أن الحديث المتكرر كل يوم عن الثورة الدينية لا علاقة له بالتجديد الذى تعرفه الأمة تاريخيًا وعلميًا هو فقط استنساخًا ماسخًا لتجربة الإصلاح الدينى فى أوروبا ومارتن لوثر ورسالته الشهيرة للبابا ليون العاشر المؤلفة من خمس وتسعين نقطة.. والحكاية التى وراءها ألف حكاية.. هو حالة (المجافاة والتكبر)على صحيح الدين والتجربة التاريخية للآمة فى البناء الحضارى.هم لا يريدون إعمال مبدأ التجديد ولا علاقة لهم بأدواته ووسائله.. لمحدودية المعرفة بالفكر الإسلامى من جهة ولأنهم يخادعون أنفسهم والناس من حولهم من جهة أخرى فقصتهم الأصلية مع رفض (حركية الإصلاح الاجتماعى والسياسى بالمفاهيم الإسلامية) والتيار الذى يحمل هذه المفاهيم الحركية.. رغم الضعف والخفة والسطحية الشديدة التى بدت فى قيادات هذا التيار فى الأربعين عامًا التى مضت. هم فى الحقيقة أسرى لمفاهيم أخرى وتجارب أخرى وسواء كانوا يؤمنون بهذه المفاهيم الأخرى حقيقة أم زيفًا فهذا شىء لا يعنى الناس العاديين الطيبين البسطاء الذين يؤمنون أن الإيمان والحياة لا يفترقان.. والناس العاديين بالفعل لا النخبة هم المستوى الحقيقى لتمثل الإسلام.. النخبة لديها مشاكل فكرية وشكوكية مع مسألة الإنسان والوجود والمصير وتلك الموضوعات الفلسفية التى لا يستقل العقل بإدراكها والإحاطة بها وليس مطلوبا من الناس أن تدفع فاتورة هذه الشكوك العبثية . حقيقة الأمر أن هناك مشروعًا إصلاحيًا (سياسيًا وفكريًا واجتماعيًا) لأوطان أنهكها الاحتلال الأجنبى الذى خرج وترك وراءه استبداد الدولة الوطنية الحديثة(العسكرية)..مشروع موفور الصلة بالاسلام نصوصا وتجربة وموفور الصلة بالإنسان والحياة إدراكًا وفهمًا. المشكلة دائمًا كانت فى العلاقة بين التجديد الفكرى والإصلاح السياسي.. والتى وقفت له سلطة الاحتلال وسلطة الدولة الوطنية الحديثة بالمرصاد ورفضته رفضًا عنيفًا.. وهذه هى الغربة الحقيقية التى يعيشها الإسلام إن كنا بالفعل نتلمس معنى لحديث الرسول الكريم بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا.