نصَّ كتاب ربّنا على أن دين الله فى جميع الأزمان هو إفراده بالربوبية والاستسلام له وحده بالعبودية، وطاعته فيما أمر به ونهى عنه: بما هو مصلحة للبشر، وعماد لسعادتهم فى الدنيا والآخرة. قد ضمته كتبه التى أنزلها على المصطفين من رسله، ودعا العقول إلى فهمه منه، والعزائم إلى العمل به. وإن هذا المعنى من الدين هو الأصل الذى يرجع إليه عند هبوب ريح التخالف، وهو الميزان الذى توزن به الأقوال عند التناصف، وإن اللجاج والمراء فى الجدل مفارقة للدين، وبعد عن سنته. ومتى روعيت حكمته ولوحظ جانب العناية الإلهية فى الإنعام على البشرية -ذهب الخلاف وتراجعت القلوب إلى هداها وسار الناس جميعا فى مراشدهم إخوانا بالحق مستمسكين، وعلى نصرته متعاونين، هذا ما قرأناه وتعلمناه. فالأديان كلها ترمى إلى غاية واحدة: هى عبادة موجد الوجود وخالق الكائنات. أما صور العبادات، وضروب الاحتفالات مما اختلفت فيه الأديان سابقها مع لا حقها، والأحكام متقدمها مع متأخرها فمصدر ذلك رحمة الله ورأفته فى إيتاء كل أمة وكل زمان ما علم فيه الخير للأمة والملاءمة للزمان، كما جرت سنته وهو رب العالمين بالتدريج فى تربية الأشخاص: من خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا، إلى راشد فى عقله، كامل فى نشأته. يمزق الحجب بفكره، يواصل أسرار الكون بنظيره، كذلك لم تختلف سنته. ولم يضطرب هديه فى تربية الأمم، فلم يكن شأن الإنسان فى جملته ونوعه أن يكون فى مرتبة واحدة من العلم وقبول الخطاب، من يوم خلقه الله، إلى أن يبلغ به من الكمال منتهاه، بل سبق القضاء بأن يكون فى مرتبة واحدة من العلم وقبول الخطاب، من يوم خلقه الله، إلى أن يبلغ به ما قررته الفطرة الإلهية فى شأن أفراده. ومن هنا تظهر حاجة البشر إلى الرسالة، وتتجلى رحمة الله تعالى بخلقه فى تتابع إرسال الرسل إليهم بالأديان التى تناسب استعدادهم وأزماتهم، فبعثة الأنبياء صلوات الله عليهم من متممات وجود الإنسان، ومن أهم حاجاته فى بقائه، ومنزلتها من النوع منزلة العقل من الشخص. نعمة أتمها الله؛ لكى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. الإسلام نهج لا إكراه فيه: لقد استخلص فقهاء المسلمين من الكتاب والسنة وتراث الكبار من أئمتها قوانين مدنية تصل تشريعاتنا وحاجاتنا الحديث فيه بماضٍ فقهى مجيد زاخر وقادر بعظيم مبادئه ومرونة قواعده ومبانيه على أن الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية لشواهد ملموسة وتطبيقات محسوسة وحياة سعيدة لأنه واف بالحاجات الزمنية الجديدة، فجمعوا بذلك بين المعاصرة والأصالة، ذلك لأن طريق الخلود ليس فى أخذ نظام لا أثر لنا فيه إلا الانسلاخ عن أصالتنا التى فى كل أرض منها أثر، وفى كل حضارة عنها طريق الفضائل مع أصالتنا فى أن ننشئ من جوهر رسالتنا منهج حياة، ولكن يستخدم نبعه العذب علاقات وتعاملات وتصورات تفى بحاجاتنا الحديثة فيكون بذلك أصله ثابتا وفرعه شامخا فى السماء كما كان يفعل فقهاؤنا الأعاظم فى تخريجاتهم وتجديداتهم الفقهية إزاء حاجات كل عصر ومصر. ونحن بذلك لا نأبى الاقتباس من الغير، فإن الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها. ولكننا أثرياء فى المادة فى حاجة إلى اقتباس الأساليب الحديثة فى البحث بضوابطه الفقهية وقواعده الأصولية لتوائم بين القديم فلا نهدمه وبين الجديد فلا نهمله. أما أن نذوب فيما ندعو إليه من مناهج تتعارض مع ديننا وتصطدم بأصولنا وثوابتنا ومع هذا نساير القوم وتصبح هويتنا نسيا منسيا، فهذا هو إعلان الإفالس وليس الأخذ والاقتباس، وهو عجز ليس فيه إبداع لا يليق بأمة لها ثرواتها الفقهية وماضيها التليد. وليس هذا الذى نقول لونا من النرجسية أو إعلاء الذات، بل هى حقائق نطق بها غير المسلمين. وأشير هنا إلى مؤتمر مر عليه ما يزيد على خمسين عاما عُقد فى فرنسا بترتيب من (المجمع الدولى للحقوق المقارنة) عام 1951، واجتمع المؤتمرون فى كلية الحقوق بجامعة باريس للبحث فى الفقه الإسلامى تحت اسم (أسبوع الفقه الإسلامى) برئاسة المسيو مونت -أستاذ التشريع الإسلامى فى كلية الحقوق بجامعة باريس- دُعى إليه عدد كبير من أساتذة كليات الحقوق العربية والغربية وكليات الأزهر ومن المحامين الفرنسيين والعرب وغيرهم، ومن المستشرقين، ومن خلال المناقشات وقف نقيب المحامين فى باريس وقال: "أنا لا أعرف كيف أوافق بين ما كان يُحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامى وعدم صلوحه أساسا تشريعيا يفى بحاجات المجتمع العصرى، وبين ما نسمعه الآن فى المحاضرات ومناقشاتها مما يثبت خلاف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ". ولقد أجمع الحاضرون على أن مبادئ الفقه الإسلامى لها قيمتها التى لا يمارى فيها، وأن اختلاف المذاهب الفقهية ينطوى على ثروة من المفاهيم والمعلومات والأصول هى مناط الإعجاب، وبها يستطيع الفقه الإسلامى أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها. وليست هذه الشهادة هى الوحيدة بذلك، فما أكثر المنصفين من الباحثين من غير المسلمين فى الغرب الذين لا عد لهم ولا حصر والذين شهدوا بنصاعة الإسلام وشموله كمنهج حياة. ونحن نذكر ذلك حتى لا يظن ظان أننا نستعلى على أحد، بل إن هذا هو المنهج الإسلامى الذى علمنا كيف نعترف بالآخر ونحترمه ما يحمله من فكر دون إكراه أو إجبار أو تسلط عليه، فقرآننا هو الذى وجهنا إلى الرد على المخالفين بقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] وكيف نبسط قضيتنا أمام المخالفين، فنقل {وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدى أَوْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24]. على الرغم من أننا على ثقة مما نقول؛ إذ إن ما نقوله مستمد من كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى لا ينطق عن الهوى، وفقهاء سلف هذه الأمة الذين وضعوا ذلك موضع التنفيذ وكان يقول كل منهم: "رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب"، وذلك حين يكون المجال اجتهادا، أما ثوابت الإسلام باقية بقاء الليل والنهار، وهى محفوظة بحفظ الله لها، فلا احتمال فى صحتها بل هو اليقين. فأين هذا مما نراه اليوم من العولمة والغطرسة وفرض الآراء بالقوة، وكأن كل فرعون يحكم فى هذا الزمان يردد ما قاله فرعون الأمس البعيد {مَا أُرِيكُمْ إلا مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]. فهو لا يرى إلا بعين واحدة تصوب تجاه المادة والتقدم العلمى والتقنى حتى أصبح هذا هو دين أتباعه ودينهم وشرعهم ومشروعهم ومقياسهم ومرجعيتهم، بعد أن طلقوا الأخلاق طلقة بائنة لا رجعة فيها، فأصبح نظامهم كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؛ لأنها تركت منهاج ربها فأصيبت بالعمى، مصداقا لقول الله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد: 19] فهل يستوى الخبيث والطيب، أم هل تستوى الظلمات والنور؟ لا يستوون والحمد لله رب العالمين. الذى نريد أن نؤكده أن عودة المشروع الذى ندعو إليه ليس مشروع فرد من الأفراد لأن الإسلام دين الجماعة وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، بل لا حتى مشروع جماعة من الجماعات ولكنه مشروع أمة يربو تعدادها على المليار نسمة يتوزعون على بقاع العالم، فيهم صفوة مختارة من العلماء والمفكرين والأدباء والكتاب والمخترعين وأصحاب التخصصات المختلفة، وهؤلاء يشكلون الطليعة والنخبة المتميزة التى لا يمكن أن تقود الأمة إلى بر الأمان إن انشغلوا بأحوال أمتهم ووحدوا صفوفهم من أجل حل مشكلاتهم ومستقبل أمة الإسلام فيحددون لها طريق الخلاص والتحدى والصمود ويسعون إلى إزالة الظلم الواقع على الكثير من الشعوب الإسلامية. إن الأمر يبدو خطيرا جدا؛ فالأمة الإسلامية تتعرض للإبادة المنظمة والبطيئة والمستمرة من عقود طويلة وحتى الآن، والشعوب الإسلامية ما زالت تلافى الويلات والمصائب والكوارث ولا أحد يقف الموقف العادل والمنصف من قضايا المسلمين، والأدهى من ذلك أنه يرسم أعداء الأمة الإسلامية مستقبلها ويتدخلون فيه. ولهذا فإن المسلمين فى حاجة إلى الوعى مع الإيمان والكياسة والفطانة والحكمة والدقة فى التخطيط لمواجهة هذا كله. إننا جميعا مدعون إلى استنهاض عزائم المسلمين وبذل الجهد والعودة بهم إلى دينهم؛ فإن قوتهم تكمن فى تمسكهم بدينهم ودفاعهم المستميت عنه، فلا عزة لنا جميعا فى غيره، ولا بقاء لنا من دونه، ورضوان الله على عمر بن الخطاب حين قال "كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام، فمن ابتغى العزة فى غيره أذله الله". لهذا كله، فإن مشروعنا الإسلامى مشروع شعوب مسلمة تتحرق شوقا وأملا فى أن تحيا بالإسلام وتعيش له وبه كى تتبوأ مكانتها بين العالمين، وتنهض بواجبها المقدر من رب العالمين {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وسَطا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا} [البقرة: 143] إنه المشروع الذى يهدى للتقى وإرشاد الطريق المستقيم الذى يحقق للأمة هويتها الذاتية وشخصيتها المتميزة واستقلالها الاقتصادى وإراداتها السياسية حتى لا تذوب فى شرق ولا غرب، وحتى تخرج من حالة المسخ التى تردت إليها من أثر التخلف والجمود من ناحية، والغزو الاستعمارى الفكرى والعسكرى من ناحية أخرى.. بل من الحكام المفسدين الذين أضاعوا البلاد والعباد وعاثوا فى الأرض فسادا.