قبل توقيع الاتفاق بيومين وبالتحديد يوم 26/6 استقبل أردوغان، خالد مشعل، فى القصر الرئاسي وأطلعه على كل شيء بعدها أجرى اتصالاً بمحمود عباس ليكون فى المشهد.. ويبدو أن الاتصالات كانت تروح وتجيء من أجل الحصول على أفضل النتائج لصالح قطاع غزة ولصالح القضية الفلسطينية بوجه عام. لم تكن تركيا تاريخيًا منغمسة فى الشأن الفلسطيني إلى هذا المستوى لكنها قررت أن تكون.. استغلت كل ما هو متاح وممكن لتحقيق ذلك: فالعلاقات التركية الإسرائيلية علاقات قديمة (مارس 1949) ومتفاعلة وممتلئة ولا ينسى أحد من المتابعين الاتفاق الشهير بين عدنان مندريس وبن جوريون عام 1958م وعدنان مندريس على فكرة هو من أعاد الأذان باللغة العربية وألغى الكثير من القرارات العلمانية لأتاتورك وأول رئيس ينقلب الجيش التركي عليه عام 1960 بل وأعدمه. تركيا تعلم جيدًا ما الذي تمثله إسرائيل فى الثقافة والفعل السياسيين لأوروبا وأمريكا.. تركيا _داوود أوغلو_ قررت أن يكون العمق العربى لاستراتيجيتها الخارجية إحدى أهم أدواتها الإقليمية والدولية. على الجانب الآخر، أصبحت غزة جرحًا إنسانيًا ودوليًا مفتوحًا وحين تحركت السفينة التركية (مافى مرمرة) فى مايو 2010 م لكسر الحصار المفروض على غزة لم تكن طيرًا خارج السرب بل كانت ضمن حالة إنسانية دولية لوضع حد لهذا العار البشرى.. الحالة التاريخية التى تمثلها حركة حماس تتلاقى فى كثير من النقاط مع الحالة التاريخية للقيادة التركية القائمة.. ناهيك عن إدارة حماس لغزة وسط كل هذا الخنق والضغط والتضييق.. لذلك ولأسباب كثيرة أخرى كان الاتفاق التركي الإسرائيلي بعودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها السابقة خبرًا عاديًا.. يفهم ذلك ضمن منطق (السياسة) ومنطق (المصالح) والسياسة بالنسبة للمصالح هى الصاحبة الرفيقة والأخت الشقيقة كما يقولون بل إن اختراع السياسة من الأساس كأهم وسيلة للتفاهم بين البشر كان من أجل المصالح التي قد تكون مادية وعملية وقد تكون مبدئية وأخلاقية أيضًا.. لكن هناك من أصحاب (الأفق المحزوز) من يتصور أن المصالح مادية فقط.. وبالضرورة هى عكس المبادئ والثوابت الأخلاقية. الداخل الإسرائيلي اعتبر أن توقيع الاتفاق الأخير خطوة ذات معان استراتيجية بعيدة المدى لإسرائيل.. لكن كثير من السياسيين والمعلقين اعتبروا أن الاتفاق رفع مكانة حماس على المستوى الدولى وهذا صحيح تمامًا.. وعلى الأرض سيشهد القطاع ثورة اقتصادية واجتماعية _هكذا قالوا_، فمستوى المعيشة المتدني سيرتفع.. ولن يبعد اليوم الذي تطرح فيه مسألة جدوى استمرار الحصار البحري على القطاع إلى طاولة البحث. وأعتقد أن هذا التطور في المنظور الاستراتيجي التركي سيؤدي في المستقبل القريب أو المتوسط إلى إقامة الميناء والمطار وهما أهم معالم رفع الحصار عن قطاع غزة.. ستدهش جدًا جدًا حين تعلم أن محمود عباس وشركاه وطرف آخر(إقليمى!!؟؟) يرفضان بشدة موضوع المطار والميناء فى غزة. أيضًا اعتبرت إسرائيل أن العلاقة بين تركيا وحماس ليس ضد مصلحتها تمامًا.. فقرار تسليم تركيا موضوع جثماني الجنديين الإسرائيليين اللذين اختطفتهما حماس في الجرف الصامد(2014م) والمواطنين الإسرائيليين اللذين اختطفا فى القطاع رفع مستوى تركيا بذلك إلى مكانة الوسيط النزيه في مفاوضات حساسة للغاية ومفعمة بالمعاني الإنسانية والجماهيرية.. هكذا قالت يديعوت أحرونوت.. أظرف شيء فى هذه القصة كلها هى تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلى ليبرمان الأخيرة التى قال فيها (المواجهة التالية مع حماس محتمة وذات المواجهة التي لا بد ستأتي.. يجب أن تكون الأخيرة) ليبرمان لمن لا يعلم عين وزير دفاع فى مايو الماضي بعد خروجه من قضية اتهام بخيانة الأمانة.. ومعروف عنه أنه كان يعمل حارس كباريه فى مولدوفا إحدى جمهوريات السوفيتية السابقة وهاجر إلى إسرائيل عام 1978م ..المهم صاحبنا تحدث مؤخرًا كأنه سكران طينة _فعلا كما بدأت ستبقى_ فالاتفاق الذي جرى يتضارب تمامًا مع هذه التصريحات وعمليًا يجعلها هراء فلا يمكن أن تقصف الطائرات الإسرائيلية محطة توليد الطاقة التي بنتها تركيا في القطاع ولا يمكن أن نتصور أن تقرر إسرائيل الخروج في حرب إبادة ضد حماس خلافا لإرادة تركيا.. بل وموسكو وواشنطن اللتين رحبتا بالاتفاق الأخير.. لا يمكن أن تقوم تركيا بمهمة وساطة حساسة (الجنديين الإسرائيليين) وفي نفس الوقت تسعى إلى مواجهة عسكرية مصيرية تجعل غزة ركام من الرماد.. كنت إلى فترة قريبة أتصور أن (العبط والدهولة) صفات يتميز بها بعض الساسة العرب فقط.. لكن بعد تصريح صاحبنا تبين الدنيا كلها مليئة بالدهولة والعبط.. ....................... ثمانى نقاط يمثلها الاتفاق الأخير جديرة بالإشارة إليها ومحاولة فهمها : إسرائيل وتركيا تعهدتا بالعودة إلى التطبيع الكامل للعلاقات بينهما بعدم العمل ضد بعضها البعض لدى المنظمات الدولية سحبت تركيا شرط رفع الحصار المفروض على قطاع غزة.. لكن فى المقابل أرغمت إسرائيل من تمكين تركيا نقل جميع المعدات والمساعدات الإنسانية التي ترغب بها إلى غزة عن طريق ميناء أشدود والذي سيشرف عليه الجيش الإسرائيلي وأن تسمح إسرائيل أيضًا لتركيا ببناء محطة لتوليد الكهرباء في غزة ومحطة تحلية مياه بالتعاون مع ألمانيا وبناء مستشفى جديد. الاتفاق لا يشمل أي شيء ملزم بخصوص الجنود الأسرى لدى حماس بغزة ولكن تركيا تعهدت ببذل كل الجهود للتوسط لدى حماس لإتمام صفقة تبادل. تقوم إسرائيل بدفع 21 مليون دولار تعويضات لأسر ضحايا سفينة مافى مرمرة التركية - قتلى وجرحى. تتعهد تركيا بإلغاء القضية المرفوعة ضد ضباط الجيش الإسرائيلي في محكمة اسطنبول فيما يتعلق بالمسؤولية عن حادثة سفينة مرمرة. تتعهد تركيا بعدم السماح لقادة حماس بتنفيذ أي نشاطات معادية لإسرائيل من داخل تركيا وفى المقابل إسرائيل تنازلت عن شرط ومطلب طرد قادة حماس من تركيا وسيواصل البلدان التعاون الأمني والاستخباراتي كما كان. إنشاء خط أنابيب غاز طبيعي احتياطي لإسرائيل وتركيا التى ستقوم بشراء الغاز من إسرائيل وبيعه إلى الأسواق الأوروبية. لا شك أن الحالة الإقليمية المشتعلة كان لها دور كبير فى التعجيل بالاتفاق(سوريا والعراق) أيضًا علاقات إسرائيل مع قبرص واليونان تمثل قلقا عميقا لتركيا.. ومن السياسة أن يكون عدوك قريبًا منك لترى وتسمع وتتوقع ناهيك عن أن جهود إسرائيل الإقليمية والدولية لا تنقطع لتوسيع مناطق نفوذها وتأثيرها في مناطق حساسة لها أثرها المباشر على تركيا والعالم العربي والإسلامي. يبقى موقف مصر من هذا الاتفاق وكانت الأنباء قد تناقلت أخبارًا مفادها أن مصر منزعجة من البنود التي تتعلق بغزة وحماس.. وواضح أن سبب الانزعاج هو حماس بعلاقتها المعروفة بالحركة الإسلامية فى مصر والعالم وأيضًا دخول تركيا بقوة فى شان إقليمي تمثل مصر فيه ركيزة تاريخية وإستراتيجية يضاف إلى ذلك أيضًا أن الحالة التركية التى يمثلها حزب العدالة والتنمية مرفوضة لدى الدولة المصرية العميقة.. خصوصًا توترات ما بعد 30/6 .. إسرائيل بالطبع ستراعى خاطر مصر فى ترتيبات ما يحدث لكن ما يغيب عن الموقف المصرى هو منطق(السياسة) البكباشى جمال حسين عبد الناصر فى عز خلافه مع الإخوان فى الخمسينيات أصر فى زيارته لسوريا عام 1957م على مقابلة الأستاذ(مصطفى السباعى) مراقب الإخوان فى سوريا ليفهم الجميع أنه لا علاقة لإخوان سوريا بما حدث لإخوان مصر ويكونون جزءًا من الحالة السياسية الصاعدة بعد الوحدة.. طبعًا البكباشي لم يفعل ذلك حبا فى الإخوان (البكباشى كان بيحب نفسه فقط كما قال السادات لحسنى مبارك ورواه أ/ هيكل عن مبارك فى كتاب مبارك وزمانه) لكن التوازنات داخل الحالة السورية كانت تتطلب وجود مؤثر للإخوان. ما لا يعيه كثيرون فى السياسة أنها أكثر مجال من مجالات الحياة يجب أن يخلو من (العناد).. العناد والكيد والغيظ تصرفات لا تليق برجالات السياسة الكبار.. ويكفى ما حدث فى أول انتخابات رئاسية بعد ثورة يناير والتي كانت مسرحًا هزليًا للكيد والغيظ والأحقاد السفيهة إلى أن حدث ما حدث. أتوقع أن تبادر السلطة فى مصر لأن تكون طرفًا مؤثرًا فى الحالة التى تتشكل الآن.. ليس على حدودنا فقط ولكن فى الإقليم كله. (هل كان علينا أن نسقط من شاهق** ونرى دمنا على أيدينا** لندرك أننا لسنا ملائكة)