«اصحى يا نايم وحد الدايم... وقول نويت بكره إن حييت... الشهر صايم والفجر قايم... اصحى يا نايم وحد الرزاق» ربما لم يكن الشيخ سيد مكاوى أشهر من قام بدور المسحراتى فى مصر. إنه يسير بقصيدة «فؤاد حداد»، على درب الصحابى الجليل بلال بن رباح، مؤذن الرسول «صلى الله عليه وسلم»، وهو يتولى مهمة تنبيه المسلمين لدخول وقت السحور قبيل أذان الفجر. فقبل أكثر من 1400 عام على قصيدة «المسحراتى»، التى كتبها الشاعر الكبير فؤاد حداد عام 1964، كان الصحابى الأسمر، فارع الطول، نحيف الجسد بلال بن رباح يسير فى شوارع المدينة، ليوقظ المهاجرين والأنصار لأن الخيط الأبيض يكاد يفارق الخيط الأسود، ليبدأ نهار رمضان.. هذه المهمة الجليلة تقاسمها «كروان يثرب» ابن رباح، مع الصحابى الضرير عبد الله بن أم مكتوم. فى مدينة رسول الله «صلى الله عليه وسلم»، كان «بلال» يطوف الشوارع، لينادى أن حان وقت السحور، فبجوار مهمته الأساسية كمؤذن المدينة الفريد، كان «بلال» يقوم بمهمة تشبه مهام وزارتى الإعلام والأوقاف فى عصرنا الحالى، مجنداً نفسه لخدمة الإسلام، بالصوت والتبليغ وحث الناس. كان «بن رباح»، أول مؤذن فى الإسلام، من السابقين إلى طريق الله، فرغم وضعه كعبد لعبد الله بن جدعان، ثم لأمية بن خلف، أحد أكبر تجار قريش، واحد من أبرز من عادوا النبى «صلى الله عليه وسلم» قبل الهجرة، فإن مهنته كعبد يرعى الغنم قادته إلى الإسلام. كان «بلال» يسير بغنم سيده عبدالله بن جدعان، وهو من كبار الأثرياء فى قريش، ولا أجر له سوى المبيت مع أغنامه، وحماية سيده ورشفات من لبن الرعية يحلبها ويقتات عليها.. مر «بلال» بغار كان فيه النبى والصديق أبو بكر، فنادى عليه النبى، ليستقى منه لبناً، فقال الراعى الطيب الكريم: «ما لى إلا شاة منها قوتى، فإن شئتما آثرتكما بلبنها اليوم»، فتبسم المصطفى من طيبة الراعى وأدبه وكرمه، وقرب منه الشاة، فحلبها، وشرب الرسول وأبو بكر وبلال، ثم فوجئ «بلال» بضرع الشاة يمتلئ لبنا، كما لو أن أحداً لم يحلبها قبل دقائق.. وقتها أضاء وجه النبى، ونظر إلى بلال، ودعاه للإسلام، وبالفطرة السليمة وجد قلب «بلال» طريقه إلى الله، فأسلم سراً. لم تمر سوى أيام حتى شاهد الكفار «بلال» يبصق على أصنامهم، وهو لا يدرك أنه تحت المراقبة، فتوجه أبو جهل إلى عبدالله بن جدعان، وأبلغه، فغضب سيد «بلال»، وتركه لأمية بن خلف وأبى جهل، ليدخل «كروان الإسلام» فى محنة التعذيب فى صحراء مكة، فيجلد، ويمنع الطعام والشراب، وتوضع الأحجار على صدره لينطق بكلمة الكفر، لكن ماذا يفعل التعذيب مع رجل أضاء نور الإيمان قلبه؟. جاء الفرج لبلال بن رباح «ويقال رباحة أيضاً»، على يد الصديق أبى بكر بن قحافة، الشاهد الأول على إسلام «بلال» فبينما كان سادة قريش يصلون «الكروان» صنوف العذاب اشترى أبو بكر أخاه فى الإسلام، وأعتقه لوجه الله تعالى، لينطلق «بلال» صادحاً بالحق، رافعاً الأذان، وموقظاً المسلمين فى ليالى رمضان بصوته الشجى فى الليل، حتى يقيم ابن أم مكتوم صلاة الفجر، وكان النبى يقول: «إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِىَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ». أما فى مصر فكان أول «مسحراتى» فيها هو عنتبة بن إسحاق، والى مصر فى عهد الخليفة المنتصر بالله العباسى، فرغم مكانته حاكماً للمحروسة، كان ينزل إلى الشارع سيراً على قدميه، ليطوف أحياء مصر القديمة حالياً، حتى يصل لمسجد عمرو بن العاص، وتطورت المهنة فى العصر العباسى، خاصة فى نهاياته، حيث كانت نساء بغداد يلقين بأوراق فيها قطع من النقود من الشرفات، ويحرقن أطرافها، فيرى «المسحراتى» القناديل الصغيرة تهبط من الشبابيك، فيسرع إليها، ويدعو لأهل البيت. وفى عصر الفاطميين، أمر الخليفة المثير للجدل، الحاكم بأمر الله، عماله فى الأقاليم بإيقاظ الناس، للسحور بالطرق على الأبواب وعلى الطبول فى الشوارع، ليصبح هذا أول «تنظيم قانونى»، للمهنة التى بدأها الصحابى بلال بن رباح. وفى عصر المماليك، أعاد الظاهر بيبرس إحياء تلك العادة، حيث تغنى المسحراتية بأبيات خفيفة من الشعر، وترديد السير، والدعاء لأهل البيت والشارع، وهى أقرب صورة للمسحراتى فى يومنا هذا، فهو ليس فقط «منبه الصيام»، بل أيضا «حبيب الأطفال»، حيث ينادى عليهم بالاسم وهو يقرع الطبل، فيما يجود عليه أهل البيت بما تيسر لديهم.