أحيى الأستاذ سليمان جودة على ما كتبه فى مقاله الأربعاء الماضى.. تساءل عن كفاية ضوابط قانون الشراكة مع القطاع الخاص.. اختار الأستاذ جودة أن يظل نقده فى المضمون.. توجه حميد يستوجب الشكر. فى المقابل، مقاله يستحث الرد.. مضاهاة الحجة بالحجة.. أمر يصب فى مصلحة القارئ.. الذى سيكون أمامه (ربما لأول مرة منذ فترة طويلة) نقاش موضوعى لقانون مهم. بصفة عامة، يستهدف مشروع القانون وضع إطار ينظم دخول القطاع الخاص فى شراكة مع الحكومة فى مشروعات بنية أساسية نحن فى حاجة إليها.. الطرق الحرة.. محطات المياه والصرف الصحى.. شبكات النقل والمواصلات.. ينشئ القطاع الخاص هذه المشروعات.. وفقاً للاشتراطات التى تحددها الحكومة.. بعد ذلك إما أن يسلمها للحكومة، أو يؤجرها لها، أو يشغلها هو مباشرةً.. كل حالة وفقاً للصيغة التى يتم التعاقد عليها. أثار الأستاذ جودة عدة تحفظات على مشروع القانون.. ردى يتلخص فى عدة نقاط: أولاً - منطلق القانون هو أن دور الدولة قد اختلف: نماذج النجاح الأشهر للدول التى حققت طفرات اقتصادية.. من جنوب شرق آسيا.. لأمريكا اللاتينية.. مروراً بشرق أوروبا.. تؤكد حقيقة واحدة.. الحكومات لم تعد فى كل القطاعات هى صاحب الفكرة، ومنفذها، ومشغلها.. فى أحيان كثيرة الأفراد يكونون أكثر كفاءة فى التنفيذ.. أكثر سرعة فى التمويل.. أكثر رشادة فى التشغيل.. فى مثل هذه القطاعات دور الدولة يتحول من المنتج إلى المحفز على الإنتاج.. من المشغل إلى الداعم لخلق فرص عمل.. وفيما يتعلق بجودة وسعر الخدمة.. دور الدولة يتحول من اللاعب إلى الحَكَم.. الحَكَم فى هذه الأحوال تكون لديه سلطة المنح والمنع.. التأكد من سلامة المنافسة.. الأهم من ذلك، تكون له سلطة إظهار الكروت الصفراء مع أى تقاعس.. والحمراء إذا تم الإخلال بقواعد اللعب. ثانياً- فى السياق المصرى.. المفاضلة بين تمويل المشروعات العامة وزيادة الإنفاق الاجتماعى لا تكون فى صالح البنية الأساسية: شئنا أم أبينا.. بنود الإنفاق الحتمى فى الموازنة فاقت ال80%.. بالأرقام إجمالى الأجور والدعم (بما فيها دعم المعاشات) وخدمة الدين العام.. 385 مليار من إجمالى 480 مليار جنيه فى مشروع موازنة 2010/2011.. (بالمناسبة، أى تحليل لموازنات دول الاتحاد الأوروبى سيكشف أن تلك البنود، بما فيها دعم الزراعة، تحتل أيضاً غالبية أوجه الإنفاق العام فى هذه الدول).. أى تصور لتطور هذه النفقات فى مصر لا يفترض تقلصها مستقبلاً.. المشكلة أن فاتورة هذه البنود دائماً ما تكون على حساب تأجيل تنفيذ مشروعات البنية الأساسية.. فهذه المشروعات بطبيعتها تحتاج استثمارات ضخمة.. عائدها ليس لحظياً.. وأخيراً (فى عصر سيطرة الصورة المرئية الذى نعيشه) لا توجد لهذه المشروعات جاذبية إعلامية تحفز البرامج الفضائية لأن تخصص لها مساحات بين فواصلها الإعلانية. لا أحد يختلف على أهمية زيادة الأجور والدعم المستهدف من عام لآخر.. لكن وفقاً لأى تحليل اقتصادى.. لا أحد يختلف أيضاً على الأهمية الشديدة لتنفيذ مشروعات الطرق، وشبكات الصرف الصحى، والطاقة.. الحل الذى يتبناه القانون هو تمويل ما تعجز عن تمويله الدولة من مشروعات من خارج الموازنة العامة. ثالثاً- القانون يخرجنا من ثنائية التنفيذ من الموازنة العامة أو عدم التنفيذ مطلقاً: المنطق هو أن الخيار لا يجب أن ينحصر بين إما تنفيذ هذه المشروعات من الموازنة العامة أو عدم تنفيذها على الإطلاق.. بديل عدم وجود الحكومة كلاعب لا يجب أن يكون إلغاء المباراة.. عدم توافر موارد عامة لا يجب أن يكون مبرراً لحرمان المجتمع من العائد الاجتماعى والاقتصادى لهذه المشروعات. رابعاً- الإصرار على التمويل العام لمشروعات البنية الأساسية إصرار على وضع سقف للنمو: النمو الاقتصادى لأى دولة.. عدد فرص العمل التى يكون أى اقتصاد قادر على توليدها.. لا يستطيع أن يتجاوز مستوى البنية الأساسية المتوفر.. قدرتنا على تحقيق معدلات نمو تضاهى ال9% و10% التى أبهرت بها الصين والهند العالم لن تتحقق دون توفير شبكات الطرق والكبارى اللازمة.. ودون توفير شبكات الطاقة والمياه التى باتت لا غنى عنها.. ودون توفير شبكات الاتصالات والإنترنت التى أصبحت كالماء والهواء.. دخول القطاع الخاص فى هذه الخدمات يساهم فى توفيرها بصورة أسرع.. فى أحيان كثيرة بصورة أكفأ.. الأهم من هذا وذاك أنه لا يضع ضغوطاً هائلة على نفقاتنا العامة.. فى وقت نحتاج فيه إلى توجيه أى فوائض متحققة لصالح بنود الإنفاق الاجتماعى. خامساً- ضمانات مشروع القانون هى أقصى ضمانات ممكنة بالمقارنة بالتجارب الدولية: قبيل عرض مشروع القانون على المجلس.. درسنا عدداً كبيراً من تشريعات الدول المشابهة لمصر.. حرصنا أن يكون القانون المصرى متضمناً لأهم الضوابط التى شملتها هذه التشريعات.. القانون المصرى يسمح للحكومة بالتدخل للتفاوض على تعديل سعر بيع المنتج أو مقابل تقديم الخدمة فى أى وقت.. يشترط على صاحب العطاء الفائز بالمشروع أن يؤسس شركة مصرية مساهمة لتضطلع هى بتنفيذ المشروع.. تخضع للقانون المصرى.. وتسدد ضرائب لوزارة المالية المصرية. التشريع المصرى يلزم الشركة المنفذة قبيل إبرامها لعقود مع أطراف أخرى، بعرض هذه العقود أولاً على الجهة الحكومية.. اعتراض الحكومة يكون ملزما فى هذا الإطار.. يحظر التشريع أيضاً بيع أصول أو منشآت أى مشروع.. يحظر ترتيب أى حقوق عينية على هذه الأصول لغير أغراض التمويل. أى اقتراح بأية ضمانات إضافية أمر نرحب به.. الهدف ضمان توفير الخدمة للمستهلك بالسعر والجودة المناسبين. سادساً- علاج قصور المنافسة يكون بتعميقها: أثار الأستاذ جودة مسألة قصور المنافسة فى بعض الحالات.. علاج هذه الحالات يكون بزيادة المنافسة مع وضع ضوابط تضمن سلامتها.. أولها الرقابة البرلمانية.. (وفقاً لمشروع القانون، يُعرَض على مجلس الشعب كل عام مع الحسابات الختامية للموازنة، تقرير مفصل عن العقود المبرمة وفقاً لهذا القانون).. ثانيها أجهزة حماية المنافسة والمستهلك.. أجهزة مصرية أثبتت - رغم حداثتها- قدرتها على التطوير والاضطلاع بمهامها.. ثم جمعيات الرقابة المجتمعية.. فوق ذلك كله الإعلام بأنواعه.. (بالمناسبة، بالرغم من توجس تيارات كثيرة فى هذا الإعلام من دور القطاع الخاص.. إلا أن المفارقة هى أن تطور هذا الإعلام فى مصر مؤخراً ارتبط عضوياً بدخول القطاع الخاص فى تشغيله.. لعل ذلك أحد المجالات التى أثبت القطاع الخاص فيها أنه أسرع فى الحركة، وأكثر قدرة على الإنفاق). سابعاً - مصر ليست حالة خاصة: شراكة القطاع الخاص فى مشروعات البنية الأساسية ليست بدعة من بنات أفكار أعضاء الهيئة البرلمانية للحزب الوطنى (لا أدرى ما إذا كان ذلك سلبياً أم إيجابياً.. الأهم أنه حقيقى).. فى بريطانيا الشركات الأكبر المولدة للطاقة من الغاز الطبيعى شركات خاصة.. فى ألمانيا، الدولة رقم 1 على العالم فى توليد الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة.. المشغل الأكبر لهذا القطاع فيها شركات ألمانية خاصة.. فرنسا، إيطاليا، أستراليا، اليابان لها نفس التجارب فى مجالات أخرى. اقتصادات العالم البازغة تسير على نفس المنوال.. وفقاً لبيانات البنك الدولى.. تجاوزت قيمة مشروعات البنية التحتية التى أنشأها القطاع الخاص فى كل من جنوب آسيا وأمريكا اللاتينية ال100 مليار دولار منذ بداية القرن الحالى.. فى الصين.. (للمفارقة، قلعة الشيوعية الباقية حتى الآن).. أنشأ القطاع الخاص منذ مطلع القرن الحالى 193 مشروعاً فى مجال توليد وتوصيل الطاقة.. مساهماته فى مشروعات النقل والمواصلات تجاوزت ال 19 مليار دولار منذ عام 2000. ثامناً- السوق المصرية خير بيئة لخلق شركات مصرية عملاقة: قوة اقتصادات الدول.. تقاس بحجم وعدد ما تفرزه من شركات عملاقة.. فَتح سوق مشروعات البنية التحتية فى مصر أمام الشركات المصرية طريق مهم، لأن تكون لدينا شركات عملاقة فى هذا المجال.. الشركات المصرية فى هذا القطاع تواجه منافسة شرسة فى عملياتها الخارجية.. فتح السوق المصرية أمامها (مع الحفاظ على قواعد المنافسة العادلة).. يفتح أمامها سوقاً تملك فيها ميزة تنافسية.. يوفر لها نقطة انطلاق لمكانة إقليمية وعالمية فى هذا المجال. لنتصور أن أكبر شركات مقاولات فى المنطقة باتت شركات مصرية.. أن أكثر شركات المنطقة خبرة فى إنشاء شبكات المياه والصرف الصحى مقرها أصبح القاهرة.. أن توليد الطاقة من الرياح والخلايا الشمسية أصبح يتم بخبرات مصرية.. عندئذ سينعكس ذلك حتماً على مؤشراتنا الاقتصادية.. على معدل النمو.. على الصادرات بمفهومها الأشمل.. على العمالة المصرية.. وعلى الإيرادات الضريبية (باعتبار أن موقعى فى لجنة الخطة والموازنة «يَحُكم»). أثق أن لدى شركاتنا القدرة على تحقيق ذلك.. القانون يفتح لها مجالاً رحباً لاكتساب الخبرات والمهارات.. لتعزيز ميزاتها التنافسية عالمياً. ختاماً.. أعيد شكرى للأستاذ جودة.. على ما وجهه من نقد وهو ذلك النوع من النقد الذى قد تختلف معه، لكن لا تملك إلا أن تحترمه.. أعرف أن ما ذكرته من حجج لن يوافق عليه البعض.. أنا لا أدعى رجاحة الفكر فى كل قول وفعل.. الأهم أنه بات لدينا مجال لنقاش موضوعى أرجو أن يتطور لمجالات أخرى.. فى رأيى أن الأستاذ جودة سنَّ سُنّة حسنة.. أشكره عليها. * رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب [email protected]