مئوية أبوبكر خيرت

فى مصر يرحل العباقرة فى صمت دون ضجيج، تحاط ذكراهم بمؤامرة لامبالاة مريبة. ألزهايمر نسيان مبدعى مصر العظماء هو أخطر مرض مزمن يصيب عقل مصر. فى مصر المحروسة اكتب أبوالليف فى محرك بحث جوجل ستجد ثمانمائة ألف نتيجة، واكتب أبوبكر خيرت ستجد أقل من 40 ألف نتيجة!
اليوم مئوية الموسيقى والمعمارى العبقرى أبوبكر خيرت. فى مثل هذا اليوم ولد هذا المبدع العظيم فى منزل والده محمود خيرت بشارع خيرت، الذى يحمل اسم هذه العائلة، التى توارثت جينات العبقرية، فالعائلة عجينة من الطاقات الفنية والتميز والابتكار، ويكفى أن الأب محمود خيرت فنان موسيقى شاعر ومترجم ونحات وكاتب أول رواية مصرية بعنوان «الفتاة الريفية»، أما باقى أفراد العائلة فالحديث عن عبقريتهم لا تستوعبه مجلدات، ويكفى أن عمر خيرت هو إحدى هذه الدُرر التى تتوسط هذا العقد الفريد.
قرأت رحلة العبقرى أبوبكر خيرت من خلال خطاباته ومذكراته وصوره وحوارته وأرشيفه الثرى، الذى حافظ عليه وقام بترتيبه ابن شقيقه المخلص المهندس أبوبكر خيرت الصغير. رحلة قصيرة فى عمر الزمن 53 عاماً ولكنها سنوات ضوئية بمقياس الجهد والإبداع، أكثر من 40 عملاً موسيقياً، ما بين السيمفونية والكونشيرتو والافتتاحية الشعبية، أرسى بها حقيقة الاختلاف ما بين الملحن والمؤلف الموسيقى، ونشر مفاهيم الهارمونى والبناء الموسيقى، الذى يشبه المعمار الذى نبغ فيه هو الآخر، ويكفى أن نعرف أن المهندس المعمارى الذى تفوق على جميع زملائه أثناء بعثته فى باريس، هو الذى صمم مبنى المعهد العالى للموسيقى وقاعة سيد درويش ومعاهد أكاديمية الفنون، وصمم أيضاً مبنى البنك الصناعى وشركة موبيل ومستشفى الكاتب والمدينة الجامعية وغيرها من روائع العمارة المصرية.
نفخ أبوبكر خيرت فى العمارة روح الموسيقى، وألف الموسيقى بصرامة ودقة وانضباط بناء العمارة، وفى مقارنة بين الموسيقى والعمارة قال أبوبكر خيرت: «العمارة راسخة تتصل بالأرض، أما الموسيقى فتجعلنى أكثر انطلاقاً، الموسيقى أصعب الفنون، فالموسيقار الدارس يظل يدرس أربعين عاماً لكى يؤدى امتحان حياته فى مقطوعة تستغرق دقائق معدودة». موسيقى أبوبكر خيرت جمعت ما بين رشاقة الباليه وشموخ العمارة وسمو الشعر، موسيقاه عقدت زواجاً كاثوليكياً ما بين الموسيقى الكلاسيكية وأذن المتذوق المصرى.
رحل عنا هذا العبقرى الجميل فى 25 أكتوبر 1963فى يوم إجازته وفى حضن مكتبه بالكونسرفتوار، الذى صمم مبناه وترددت فى جنباته إبداعاته الموسيقية، وكأنه يأبى أن يغادر عالمنا إلا بجناحيه الملائكيين: الموسيقى والعمارة.
أعرف أن مجلة «أيام مصرية» المحترمة تحضر لعدد خاص ومميز عنه، ولكن لا يمكن أن تمر مئوية أبوبكر خيرت دون احتفالية خاصة من المجلس الأعلى للثقافة ودون صدور كتاب يؤرخ لتلك العبقرية، التى مرت كالشهاب فى سماء مازالت تسكنها غيوم الجهل والتجاهل.