الربيع فصل من أربعة فصول، لكنه يتمتع دون غيره بسمعة وصيت حسن صنعهما الشعراء والأدباء، وساهمت فيها ذكريات المحبين عن الليالى القمرية، وبلكونة بحرى مع كوب شاى بالنعناع الأخضر، ودندنات الأغانى العاطفية المفضلة، ورغبة المصورين فى اصطياد الجمال مجسدا فى تكوينات لونية مبهجة لزهور بلا حدود. هكذا تحول الربيع إلى أسطورة، وطقس دائم للاحتفال بالخلق ونضارة الطبيعة، وفى رائعة «الجميلات النائمات» لليابانى ياسونارى كاواياتا أصداء فلسفية عميقة تسجل لنا هذه الحالة المذهلة، من خلال «ايجوشى» العجوز الذى يرتاد، بناء على اقتراح أصدقائه، منزلا فى ضواحى طوكيو، يتردد عليه العجائز الأثرياء لقضاء ليلة يتأملون فيها الحسناوات وهن يرقدن تحت تأثير مخدر، هؤلاء العجائز لا يملكون حق إيقاظ جميلات المدينة، ولا حتى حق اللمس أو محاولة ذلك، وأقصى مايحلمون به أن يقبلوا بتناول أقراص منومة قبل أن ينعموا بنوم عميق وأحلام وردية بجوار تلك الجميلات. المتعة هنا تتعلق بإمكانية الحلم، وكذلك بمحاولة إنعاش ذاكرة تتوارى خلف الضباب الرمادى لخريف العمر.. فها هو «ايجوشى» يستعيد ذكرياته عن النساء وهو يتأمل الجميلة النائمة التى تتغير فى كل زيارة لهذا المنزل، المشاركة التأملية لربيع ينام بجانبه تتيح له استرجاع ذكرى عطر، ومشاهد من المتعة غابت عن برامجه اليومية، لكنها لم تنطفئ فى خياله هكذا يسعى الإنسان دائما للتواصل مع أحلام دفينة تئن تحت وطأة الثقل الذى يعيشه الإنسان فى آخر العمر، وهكذا يحاول استرجاع الزمن عن طريق آخر، وهكذا نحتاج دوما إلى جسر يصلنا بربيع لا يمكن استعادته إلا افتراضيا. وهذا يعنى أن الربيع لا يدوم، إنه مجرد فصل، موسم عابر، فلماذا نبحث دائما عن ربيع دائم؟ لماذا نتصور أن هذا الفصل هو الأجمل والأروع وما عداه أقل؟ مع نهايات رواية كاواياتا يموت أحد العجائز على فراشه بجوار إحدى الجميلات، كما يكتشف «ايجوشى» فى منتصف ليلة ما، موت الحسناء التى يسامرها فى خياله. هكذا ينقضى الخريف والربيع معا، لابد من نهاية.. ليبدأ فصل جديد، لكن النهاية، أى نهاية، بعدها بداية ما، والبدايات تنتهى لتبدأ من جديد، إنها دورة حياة تقوم على التتابع والتنوع، فلا تتمسكوا بالربيع فقط، لأن التعلق بفصل واحد يحرمكم من التمتع بباقى الفصول، واقرأوا معى رباعية عمنا الراحل صلاح جاهين وهو يقول: الدنيا من غير الربيع ميتة، ورقة شجر ضعفانة ومفتفتة.. لأ ياجدع، غلطان، تأمل وشوف، زهر الشتا طالع فى عز الشتا.. وعجبى.