كان ضيّق الصدر حرجا، لا يحتمل السؤال، يطارد السؤال بإجابات تجرّ علامات استفهام تحوم كالبوم فوق عمامته البيضاء، أذهب إليه باكراً متثاقلاً خشية اللقاء، أتلمس حال مزاجه من «حاتم» سكرتيره الخاص، دوماً متعكّر، لا فرق، أعوّل كثيراً على فقه الاضطرار، مضطراً للقائه بحثاً عن إجابات، نادراً ما تحصل على إجابات شافية من الإمام، بدلاً من السؤال هناك ألف سؤال وسؤال، أخرج ممروراً خاوى الوفاض. أقبّل يده، ما قبّلت يداً بعد يد أبى إلا يد فضيلة الإمام، هكذا وصّانى والدى خيراً بالأئمة والصالحين، طرية تحمل أصابعه دفء كوب من الينسون الساخن، يرتشفه صباحاً على الريق لعله يجلب إليه بعضا من الاسترخاء، يأنس لوجودى، نعم يا سيدى، يقولها لى فأختار الكلمات الموحية بعناية، أخشى نهاية للقاء قبل أن يبدأ، عادة ما يُنهى لقاءاته على حين غرّة وبطريقة فظّة، تألّم منها بعض الزملاء ولم يحتملها آخرون، بعضهم ذهب إلى القسم حانقاً يحرر محضراً لفضيلة الإمام. أغزل أسئلتى بخيوط من حرير، أتلمّس ما يُبهجه لعله ينداح فى الحوار، صعب المراس، سوهاجى دماغه ناشف لا يلين، ردوده قاسية، تصدمك، أحياناً تؤلمك، لكنه الإمام الأكبر، شيخ الجامع الأزهر، حِرت كثيرا، ما لهذا الإمام لا يحتمل صغيرة ولا كبيرة، هل يُعانى من تصلب شرايين مثلا، هل علّة قلبه تضغط على أعصابه، هل فقده لرفيقة عمره «الحاجة» زاد من وحدته، وعظم من جفوته. كان يتألم سراً، ولم نكن نعلم كُنه هذا الألم، ينالنا بعض من الألم، كان يبكى من قلبه على فراق رفيقة العمر، ورقته سقطت يوم سقطت مريضة، واراها التراب بحب، أحسّ بالفقد، إحساس مرير ملك عليه حياته، لم يهنأ بزاد ولا استطيب طعاماً، كان حزيناً، لم يرحموا شيبته، ولم يحترموا حزنه، تفنّنوا فى استفزازه لأقصى الحدود، صغارهم قبل كبارهم كانوا يلومونه ويقرّعونه، وبلغ نفر منهم المدى فأهانوه وأهالوا على عمامته من تراب أقلامهم، مات كمداً، رحل محزوناً، وإنّا لفراقك يا مولانا لمحزونون. عبث نفر منهم بشيبته وشبّهوه بالقائم يصلى فى الفاتيكان، وتقافزوا على كتفيه كالغربان السود، شدوا من شعر لحيته شعيرات بيضاء لونها تسر الناظرين، طالبوا بعزل الإمام، تنطّع من تجبّهوا ضده وتتروا فى جلده بسياط الدين وما يفقهون، اتهموه بالتفريط، وتضييع الأزهر، وصموه بالتهاون، والمهادنة، اتهموه بالسلطة، قالوا فى وصفه «شيخ السلطة»، وكأن السلطة يلزمها شيخ يُحلل ويُحرّم، وهم يحلّلون ويحرّمون من فوق منابر الخليج إلى المحيط. لم يتركوا نقيصة إلا وألصقوها بالرجل الذى عزف عن قراءة صحفهم وما يأفكون، وعندما اشتط البعض ذهب - وهو الإمام الأكبر - إلى المحكمة يُطالب بحقه ممن ظلمه، لم يكفّرهم ولم يُخرجهم عن الملة كما فعل ويفعل السفهاء منهم إذا شجر بينهم، يكفّرون الطير فى السماء إذا بال على وجوههم فى صيف قائظ. كان عفواً كريماً، لم يدعُ عليهم ربه فى السجود، ولم يستنجد بالسلطة التى بها اتهموه، ساموه سوء العذاب، سوء الكلمات المبطنة بالاتهامات، وجعر أحدهم فى الصحيفة أن اخلعوه، وما خلعوه وما رفتوه ولكن برز لهم يردّ الصاع صاعين، عنيداً، لم يُهادن الذين افتأتوا على العمامة والإمامة، كان غضوباً فاستفزوه، أخرجوه عن طوره، عن وقاره، طفقوا يتلهّون بإغاظته، لم يرحموه.. رحمه الله فيمن عنده.