توجهت إلى مطار القاهرة لاستقبال البرادعى بعد أن قرأت الصحف اليومية صباح الجمعة، وتخيلت أننى فى الطريق إلى موقعة حربية أخرى بعد أن سرّب الأمن معلومات للصحف أن هناك 8000 عسكرى فى انتظارنا، وهناك أمن يلبس ملابس مدنية جاهز لإرهابنا، وذلك لتخويف الناس من الذهاب إلى المطار ولكننا لم نجد شيئاً من ذلك. لو كانت الدولة قد شمرت عن ساعدها كالعادة وحاصرت القادمين لاستقبال البرادعى لتحول الأمر كالعادة إلى تراشق بالألفاظ والهتاف ضد النظام ولأصبحت فضيحة النظام بجلاجل، ولكن الأمن تصرف بحكمة غير معروفة عنه أدت إلى الحفاظ على كرامة مصر ورئيسها. بدا لى من قراءة بسيطة لتغطية زيارة البرادعى فى الصحف أن الصحف المستقلة تصدر فى دولة والصحف القومية تصدر فى دولة أخرى، فجميع الصحف المستقلة أعلنت عن استقبال البرادعى على صفحاتها الأولى، وفى اليوم التالى نشرت تفاصيل الاستقبال على مساحات ضخمة فى الصفحات الأولى، أما الصحف القومية فلم تنشر شيئاً أو نشرت الاستقبال فى سطور قليلة دون أى تعليق لاحق. ويبدو أن هناك تعليمات من النظام بالتوقف عن شتيمة البرادعى التى قادها السادة رؤساء تحرير الصحف القومية، وأدت إلى فضيحة كبرى أساءت إلى النظام وإلى الصحف التى كانت يوماً ما عريقة ومحترمة، ولكنها للأسف فقدت قيمتها ومصداقيتها وقراءها وأصبحت تكتب للحاكم وليس للقارئ. الملاحظة الثانية أنه للمرة الأولى أرى أن أغلبية الحضور من الشباب المصرى الوطنى الذى يحب مصر ويدافع عن مستقبلها، وكلهم تقريباً غير منضمين إلى أحزاب سياسية أو إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكانوا غاية فى النظام والالتزام. كنت أسمع نغمة سائدة أنه لا روح وطنية فى الشباب الآن، وما رأيته صحوة شبابية رائعة أعتقد أنه سوف تتلوها صحوات وحركات أكثر قوة تدافع عن الديمقراطية والحرية. الشىء الآخر أننى رأيت جميع أطياف المعارضة المصرية وللأسف لم أر الأحزاب المعارضة التى يعتبرونها كبرى. لقد توارت ربما خوفاً وربما خجلاً، واختفى رجال عظام لهم تاريخ، ولم يحضروا للمشاركة فى عرس مصر. بالطبع لم يحضر الحزب الوطنى ولكن التليفزيون المصرى حضر وجاء أحد مصوريه يسلم علىّ ويشكرنى على علاج مريضة قريبته، وسألته: هل سوف تصور الاستقبال؟ فقال: طبعاً، ولكن لن نعرضه أبداً. والغريب أن القنوات الفضائية كلها كانت فى استقبال البرادعى، وأذيع الاستقبال فى كل العالم ولكن تليفزيون الفقى اختفى وكأنه تليفزيون فى المريخ. عند لحظة فتح الباب الزجاجى الكهربائى لخروج البرادعى انطلقت الهتافات «بلادى بلادى لك حبى وفؤادى» والدموع تنهمر من عيون المصريين. لم أعد أركز على مكان خروج البرادعى، ولكننى ركزت على الشيوخ والشباب والنساء والأطفال.. الكل يبكى فرحاً وأملاً فى آن واحد. تحدثت مع سيدة مصرية بسيطة فى الخمسينيات من عمرها، جاءت منذ الصباح لاستقبال البرادعى، وعندما سألتها عن علاقتها بالسياسة قالت إنها لا علاقة لها بها، وهى أول مرة تخرج فى حدث له مغزى سياسى. قابلت مصرياً قادماً من الكويت ليوم واحد ليكون فى استقبال البرادعى. شاهدت الأمل فى عيون المصريين وانهمرت علىّ الأسئلة حين عدت إلى البيت من العائلة والأصدقاء والأحباء. الكل عنده بصيص من الأمل، ولا أحد يدرى هل سيستمر هذا الأمل أم لا. كان واضحاً للجميع أن النظام فى مصر أصبح فاقداً للشعبية، وتغيير الدستور المعيب جعله أيضاً فاقداً للشرعية. الشعور الشعبى لا تخطئه العين، إن معظم الناس لا يعرفون عن البرادعى إلا قليلاً ولكنهم فرحوا لأنه مصرى محترم ذو مكانه دولية، قال: كفى ما يحدث، نريد تغييراً. وأعتقد أن التغيير قد حدث بالفعل، لم يعد أحد يتكلم عن التوريث لأنه أصبح مستحيلاً فى الظروف الحالية إلا لو تم القبض على جميع المصريين وتم استيراد ناخبين من الخارج. مقدمة المصريين تحركت إلى الأمام وعلى الباقين والمترددين والخائفين خلع رداء الخوف والتردد. نريد مصر أحسن وأجمل وأنظف، نريد حرية لأولادنا، وتعليماً وصحة أفضل لهم. نريد أن نوقف الفساد الجبار الذى جعلنا على قمة منتخب الفاسدين فى العالم. نرجو أن يمسك البرادعى بهذه اللحظة الفاصلة كما أمسك بها سعد زغلول الذى لم يكن ثورياً ولا محسوباً على السياسيين الوطنيين قبل إرهاصة ثورة 19، ولكنه اقتنص اللحظة التى حركت مشاعره الوطنية فقاد الثورة واكتشف نفسه واكتشف أيضاً معدن المصريين الذين تحركوا معه ينادون بالاستقلال.