عادل إمام ليس مجرد ممثل كوميدى فى تاريخ السينما، لكنه تاريخ كوميدى ممثل للسينما والمجتمع فى نفس الوقت، وأثناء تحضيرنا لموضوعات «الشلة» فى العدد الماضى لم يكن زعيم المشاغبين بعيدا عن التفكير، ونجح ملحق «طعم البيوت» فى الحصول على فصول شيقة من حياة عادل إمام تضمنها كتاب لم ينشر بعد حرصت مؤلفته على تكتم أمره لحين الانتهاء منه، حيث تعكف على مادة الكتاب منذ سنوات، وقد اخترنا جانبا من ذكريات الزعيم المرتبطة بفكرة الشلة والشقاوة وعلاقتها بالأسرة، من مرحلة الطفولة وحتى بدايات التحاقه بالوسط الفنى. ذكرياتى مع الشلة على قهوة عكاشة يحكى عادل إمام: كانت قهوة عكاشة ملتقى الجميع من كل صنف ولون، وكان أصحابها أخوين، والغريب أنهما كانا طوال الوقت يتخانقان وينزلان ضرباً فى بعضهما، لكنهما كانا «أولاد بلد» فى منتهى الشهامة والجدعنة، كانت قهوة عكاشة تبدو للغرباء مجرد قهوة عادية جدا، والغريب أنها بلا لافتة، ولا عنوان، لكن كل الناس يعرفونها، ويصفون بها الأماكن المجاورة، وإذا سأل أى مخلوق: قهوة عكاشة فين؟ يجد مليون من يدله، قهوة عكاشة.. كانت جامعة للحياة تعلمت فيها الكثير.. كان فيها كل شىء، ترابيزة «بنج بونج»، وكنت أحب أن ألعب تنس الطاولة كنوع من التميز والمنظرة أحيانا، كما كنت ألعب الشطرنج من باب التذاكى على الجيران والإحساس بالتفوق، وكنت ألعب الدومينو خاصة مع صديقى عاطف بسيونى، لكن الكوتشينة كانت لعبتى المفضلة، وإن كنت لا أقتصر عليها، فقد كانت الصعلكة هى متعتى الأكبر. فى قهوة عكاشة شفت «زكى النص» أحد فتوات الحلمية، وكان يتاجر أيضا فى المخدرات، والحقيقة أنه كان شخصية مهمة ولها وضعية غريبة جدا، والكل يهابه ويعمل له ألف حساب، وكانت له دخلة مثلما نفعل فى المسرح، له طريقة مميزة فى دخول القهوة، تسبقه ضجة وترحيب وصبيان هنا وهناك، وأول ما يدخل تحصل حالة صمت شديدة، والكل سمع هس، ولكننى لم أكن مبهورا به، فقط كنت أستغرب لما أشوفه وأشوف تصرفات الناس وخوفهم منه، وكانت تصرفاته تلفت نظرى وكنت افكر بينى وبين نفسى فى سر الوضعية التى يعيش فيها زكى النص، وفى إحدى المرات سألت الأخوين عكاشة: إيه حكاية زكى النص، والزباين ليه بيحترموه كده؟ والمعاملة معاه ليه غير معاملتكم مع بقية الناس؟ فارتبك الأخوان عكاشة وتلفتا حولهما، وقال أحدهما: خليك فى حالك ياعادل، بينما تجرأ الثانى وقال: أصله فتوة جامد ومحدش يقدر يقف قصاده، ومدوخ البوليس وراه. ولأننى كنت أكره البوليس وسيرته، بسبب ما يفعله والدى معى من شدة وقسوة، أعجبنى زكى النص لفترة، إلى أن عرفت الجزء الخفى من القصة، وهى تجارة زكى فى الحشيش والمخدرات، وقلت خسارة الراجل الجدع ده يكسب القرش اللى بياكل منه من «قرش الحشيش»، وقلت لنفسى: دى مش جدعنة.. أمال فين الشقا والشغل والتعب؟ الجدعنة إن الانسان يبقى بطل شريف، مش بطل وتاجر مخدرات. من الشيوعية إلى الصوفية إلى الفشل الثلاثى يقول عادل: كانت علاقتى بالدين طبيعية، مثل أى صبى مصرى فى حى شعبى، وكان أبى يحثنى على الصلاة، وعندما كبرت قليلا كان يضربنى إذا غفلت عن الصلاة، وبصراحة كنا محاطين بالمساجد من كل جانب، وكنا نرى المصلين طوال أيام النهار، ونسمع أصوات الأذان والتواشيح، وكنت أعيش مع صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، وأشعر بأنه يحملنى لعالم ملائكى، لكن فجأة ضاقت بى الحياة وتغيرت ظروفى بعدما شعرت بالفقر، وحدثنى زميلى فى المدرسة عن الطبقة العاملة والشيوعية، وبعد فترة شعرت بالاختناق من كل شىء، وكنت كثير الأسئلة عن الكون والوجود، وأسباب الخلق، ولماذا هذا التفاوت الكبير بين الفقر الشديد والثراء الفاحش، وكان بعض الزملاء فى المدرسة يخافون من أسئلتى، وقال بعضهم إن عادل إمام اتجنن، وبعضهم قال: ألحد، لكن أنا كنت أسأل، وأندهش، وأريد أن أحصل على إجابة، وكان خالى له دور كبير فى دخول هذه المرحلة، وكذلك الخروج منها، كان خالى الواحة التى ألجأ إليها من قسوة أبى، ومن ظلام الحياة حولى، كنت أحب أن أعرف، وكنت أسأله فيجيب، ويرشدنى إلى قراءة الكتب ومشاهدة بعض الأفلام.. كان خالى يسكن وحيدا، لأنه لم يكن قد تزوج بعد فى ذلك الوقت، وكان له تأثير كبير فى حياتى كان له رأى فى تصرفاتى كان يقسو على أحيانا، ويرحمنى فى أحيان كثيرة فكنت أتجاوب معه وأسمع كلامه، لأن أبى نفسه كان يوافق على كلامه لأنه كان يساعدنا ماديا. ويضيف عادل: خالى كان «عازب» بقى وعايش حياته بالطول والعرض، وأنا اتعلمت منه أجرب كل حاجة، وعملت مغامرات أكبر من سنى، شخصيات القهوة يقول عادل: هكذا كانت قهوة عكاشة هى زادى الأساسى الذى حملته معى وأنا أخطو خطواتى نحو الفن، بل بعد أن حققت شهرتى فى مجال التمثيل، فالشخصيات التى تعرفت بها فى القهوة ملأت جزءاً كبيرا من مخزون الذاكرة، وكانت هذه الشخصيات تخرج فى العديد من الأفلام التى قدمتها، لأنى شوفت ناس عمرى ما أنسى أشكالها ولا أصواتها، ولا طريقتها فى الحركة والكلام والضحك. الغريب أننى فى تلك الفترة القديمة لم أقلد أحدا من زبائن قهوة عكاشة رغم أننى كنت أقلد طوب الأرض.. كنت أقلد كثيرا من أساتذتى فى المدرسة، وأهمهم طبعا على أفندى مصطفى مدرس الحساب، الذى كان يرد على تقليدى له بطردى من الفصل، وكنت كلما ضحكت يتصور أننى أضحك عليه فيطردنى، وقبل أن أخرج من الفصل أقوم بتقليده وهو يأمر بطردى، فيضحك التلاميذ جميعا، فيضربنى، وخارج المدرسة كنت أقلد شخصيات كثيرة وغريبة منها عم عنتر بائع البليلة، وشحاتة الأقرع بائع الكبدة عند سور الأزبكية، والوحيد الذى بدأت تقليده من زبائن قهوة عكاشة كان «زكى النص» شخصيا.. وقد بدأت فى تقليده بعد أن عرفت أنه تاجر مخدرات، فقد أردت - من دون أن أفكر - السخرية من بلطجى الحتة المرعب، واكتشفت أن الناس يفرحون أكثر عندما أقلده، ويطلبون باستمرار تقليد زكى النص، وكأنهم يشاركوننى فى عملية السخرية والانتقام منه بالضحك عليه. ويقول عادل: طبعا لم أكن أدرك فى ذلك الوقت أن هذه الشخصيات ستعيش داخلى طوال العمر، فقد كنت أهرج، وأتسلى وأعيش اللحظة من غير أن أفكر فى الغد، لكن اكتشفت بعد ذلك وأنا أقوم بتمثيل أدوارى أن هذه الشخصيات صاحية جوايا، وتتقمصنى، وأتقمصها، وتظهر فى توقيتات وتعبيرات خاصة جدا، وفى وقتها بالضبط، وأحيانا لا أعرف كيف خرج ذلك التعبير، أو تلك الحركة؟