قام الحزب الوطنى، من خلال تنظيم وإدارة مجمعه الانتخابى، بمحاولة تبدو جادة هذه المرة لوضع قواعد ومعايير عامة تستهدف تحقيق حد أدنى من الانضباط يجنب الحزب ما يقع فيه عادة من حرج عقب كل انتخابات، حين يكتشف أن مرشحيه الرسميين لم يحصلوا على أغلبية المقاعد، ثم يجد نفسه مضطرا لاستجداء رضاء المتمردين عليه من الفائزين للوصول إلى أغلبية تمكنه من إحكام هيمنته المطلقة على الآلة التشريعية. ولأنه يصعب الحديث منذ الآن عن مدى ما تتمتع به من كفاءة، يتعين الانتظار إلى أن يتم اختبار المعايير الجديدة عمليا فى الانتخابات المقبلة. غير أن انعقاد المجمع فى حد ذاته أتاح للحزب فرصة لاستعراض عضلاته من خلال وسيلتين. الأولى: إظهار قوته العددية، حيث أشارت وسائل الإعلام، إلى أن عدد الراغبين فى الترشح تحت مظلة الحزب تجاوز خمسة آلاف شخص، مما يعنى أن لديه من الإمكانيات البشرية ما يؤهله لدفع أكثر من عشرة أشخاص للتنافس على كل مقعد انتخابى!. والثانية: إظهار قدرته المادية، حيث تمكن الحزب من جمع موارد مالية إضافية بلغت عشرات الملايين من الجنيهات. وتظهر هذه الأرقام فجوة القوة بين الحزب الحاكم والأحزاب الأخرى، البالغ عددها 24 حزبا، التى لا يستطيع أى منها أن يعثر على مرشحين فى أى انتخابات يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، ولا يملك بعضها موارد مادية تكفيه حتى للمحافظة على نظافة مقره اليتيم فى القاهرة، إن وجد. وهنا تكمن المفارقة الكبرى. قد يكون لهذه الأرقام، من منظور الحزب الحاكم، دلالات تثير لديه كل الفخر والاعتزاز لأنها تتيح له الفرصة للادعاء بأن حزبا على هذه الدرجة من القوة لا يحتاج إلى اللجوء للتزوير أو التدليس لاكتساح أى انتخابات يخوضها. أما من المنظور العلمى والموضوعى، فلهذه الأرقام دلالات مناقضة تماما تكشف عن خلل كبير فى بنية النظام السياسى نفسه، يجعله غير قابل للتطور الديمقراطى، وذلك بسبب الطبيعة الخاصة للتجربة التعددية الراهنة فى مصر وللمسار الذى سلكته. فقد انطلقت هذه التجربة بقرار فوقى، وليس بضغط شعبى، وانتكست، ثم اختنقت، حين قرر رئيس الدولة إنشاء حزب يقوده بنفسه. ومن الطبيعى، حين يصبح رئيس الدولة فى نظام يتمتع فيه بسلطات شبه مطلقة، رئيسا لحزب يؤسسه وهو فى السلطة، أن تختلط الأوراق وتتوه الحدود الفاصلة بين قوة الدولة وقوة الحزب. لذا، فإن ما جرى منذ أيام فى المجمع الانتخابى هو أكبر دليل على أن النظام السياسى المصرى الراهن لايزال شموليا فى جوهره، لأن الدولة هى المهيمن الرئيسى على حيزه السياسى، ومن ثم فهو معرض للانهيار الفورى فى اللحظة التى يتم فيها الفصل بين رئاسة الدولة والحزب. لو كان الحزب الوطنى بهذه القوة حقا، فلماذا لا يوافق على الإجراءات التى تطالب بها المعارضة لضمان نزاهة وشفافية الانتخابات. إن رفض الحزب الحاكم إجراء الانتخابات المقبلة تحت سلطة وإشراف القضاء المصرى ورقابة المجتمع الدولى لهو أكبر وأهم دليل على أنه مجرد نمر من ورق، وأن الأعداد الكبيرة من المواطنين الذين يقومون بترشيح أنفسهم تحت مظلته ويقدمون له الدعم المالى يبحثون عن تحقيق مصالح لا يستطيعون تأمينها بوسائل أخرى.