ما أظن أن مصر ودعت أحدا من أبنائها البررة الذين أحبوها وأحبتهم بقدر ما ودعت به جمال عبدالناصر منذ أكثر من أربعين عاماً وبقدر ما ودعت به قداسة البابا شنودة الثالث منذ عدة أيام. وتلقائية الشعوب وعفويتها ليس أصدق منها فى التعبير عن مكنونات العقل الجمعى. وكانت جنازة جمال عبدالناصر حدثاً تاريخياً إذ لم يودع شعب زعيماً على نحو ما ودع شعب مصر بل الشعب العربى كله ذلك الرجل الذى مازال يتردد اسمه عند الأزمات. كان ذلك منذ أكثر من أربعين عاماً. ومنذ أيام ودع شعب مصر كله بكل طوائفه مسلميه ومسيحييه قداسة البابا شنودة، وداعاً مهيباً تحدثت عنه أنحاء الدنيا مبينة كيف أن الشعوب عندما تحب وتقدر تقديراً بعيداً عن نفاق السلطان فإن مشاعرها الصادقة تتدفق معبرة عن مكنون عواطفها. وما أظن أنى سآتى بجديد فى وصف هذا الوداع المهيب للبابا شنودة فقد تحدثت عنه كل الصحف وكل الفضائيات ولكنى هنا سأذكر أموراً محددة عن علاقتى بقداسته وعن دلالة هذه العلاقة التى يعرفها كثير من المسلمين والمسيحيين على حد سواء. وأظن أننى كنت واحداً من آخر من تحدثوا لقداسته ذلك أننى اتصلت بالأنبا أرميا مساء يوم الخميس- قبل التنيح بيومين اثنين فقط- لأطمئن على صحة البابا ولكن الأنبا أرميا أعطى التليفون لقداسته وقلت له أريد أن أطمئن وأنا أدعو لقداستك بالصحة وأدعو لمصر بالستر فقال لى لك محبتى ودعواتى. وكان هذا آخر ما سمعته منه ولعله كان من آخر الكلمات التى قالها قبيل الانتقال إلى جوار ربه. وإذا كانت هذه هى النهاية فإن بداية العلاقة قد مرّ عليها قرابة أربعين عاماً. فى يوم من الأيام فى أواخر السبعينيات من القرن الماضى اتصل بى الأنبا بسنتى وقال إنه يريد أن يقابلنى فرحبت به وتقابلنا فى اليوم التالى مباشرة. وعندما التقينا قال لى نيافته أحمل إليك سؤالاً واحداً من قداسة البابا. أنت تعرف أن الرئيس السادات أصدر قراراً يسحب فيه القرار الجمهورى باعتماد انتخاب البابا بطريركاً للكنيسة القبطية المصرية وقداسته يريد أن يطعن فى هذا القرار أمام القضاء ويسأل إذا كنت على استعداد لرئاسة هيئة الدفاع عن قداسته. والبابا يريد إجابة بغير حرج ويدرك دقة الوضع الذى أنت فيه ولن يؤثر عليه إذا رفضت. وفوراً قلت للأنبا بسنتى- أعطاه الله الصحة وطول العمر- نعم بغير تردد فأجابنى: «هكذا بهذه السرعة». قلت له: «نعم هكذا بهذه السرعة». وأخبر الأنبا بسنتى قداسته بجوابى فجمع قداسته المستشارين القانونيين للكنيسة وكان من بينهم الأستاذ/ حلمى راغب وكيل نقابة المحامين، وهو من جيل سابق على جيلنا وأخبرهم بأنه اختارنى لرئاسة هيئة الدفاع فقالوا جميعاً لقداسته: «نعم من اخترت». مجاملة منهم بطبيعة الحال. وأضاف قداسته هل تعلمون أسباب اختيارى؟ إنها ثلاثة. أولاً هذا رجل مسلم وأعرف أنه عميق الإسلام وأنا رأس الكنيسة القبطية ومع ذلك قبل الدفاع عنى بغير تردد، هذه واحدة. الثانية أنه كان وزيراً مع الرئيس السادات وأنا أخاصم قراراً أصدره السادات. والثالثة أنا أعرف أن علاقته بأسرة الرئيس السادات- بعد وفاته- هى علاقة وثيقة جدا ومع ذلك لم يتردد فى أن يدافع عن قضيتى. كانت هذه الحادثة هى بداية توثق العلاقة. وزالت الغمة وعاد البابا إلى كرسى البطريركية. وتواصلت العلاقة بغير انقطاع. وكان قداسة البابا إلى جوار مقامه الدينى أديباً وشاعراً وذا بديهة حاضرة وروح للفكاهة ندر أن يتمتع بها من فى مثل سنه ومن يحمل ما يحمله من أعباء وهموم. وكان هناك كتاب أصدره أستاذنا المرحوم الدكتور محمد كامل حسين، اسمه «قرية ظالمة» وهذا الكتاب يروى أحداث اليوم الأخير فى حياة السيد المسيح عليه السلام. وأشهد أننى لم أقرأ فى الآداب العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية ما يضاهى هذا الكتاب روعة وكان قداسة البابا محباً لهذا الكتاب أيضاً شديد الإعجاب به. وكانت الطبعة الأولى من الكتاب قد نفدت من سنين ونجح مسعاى فى إعادة طبع الكتاب عدة طبعات بعد ذلك. ولكن المهم أنه فى فترة نفاد الكتاب وقبل إعادة طبعه أعطانى قداسة البابا نسخة زائدة كانت عنده. وتصادف أن أحد الأصدقاء من أساتذة الجامعة- وكان مسيحياً- استعار هذا الكتاب منى ولم يعده. وكانت علاقة هذا الصديق بالبابا ليست على ما يرام وطلب منى أن أصلح بينه وبين البابا فلما أتيحت لى فرصة اللقاء مع قداسته قلت له إن فلانا استعار منى كتاب «قرية ظالمة» ولم يعده فقال لى قداسته على الفور «المشكلة أن صاحبك هذا هو قرية ظالمة وأنت تريد أن تدافع عنه». وعندما أجريت عملية جراحية كان قداسته فى الولاياتالمتحدةالأمريكية للعلاج، وعندما عاد من رحلته علم أننى فى المستشفى، فوجئت بأنه جاء لزيارتى ومباركتى فى المستشفى. وكان حدثاً فى تاريخ المستشفى وكانت لفتة كريمة مازلت أعتز بها وأذكرها وأحتفظ بالصور التى التقطت لهذه الزيارة التى خففت عنى عناء المرض. رحم الله قداسة البابا رحمة واسعة وعوض مصر كلها وعوض الكنيسة القبطية عنه. وأنا أعرف أن ذلك أمر صعب ولكن مصر قادرة على العطاء والإنجاب. والله المستعان.