ما زلت أقرأ وأشاهد فى إعلامنا المصرى والعربى تلك المقولات التى تبالغ فى مغزىتولى أوباما ذى الأصول الأفريقية وتعتبره تحولا راديكاليا فى ملف الأقليات. والحقيقة أن تلك المقولات أقرب للطرائف منها إلى الجد. ففضلا عن أنها مقطوعة الصلةتماما بتعقيدات الواقع الأمريكى وبعيدة كل البعد عن فهم الدلالات الحقيقية لفوزأوباما فإنها تكشف عن حجم التبسيط والخفة الذى نتناول به فى عالمنا العربى قضاياالأقليات عموما. ففى الحالة الأمريكية، تظل العنصرية المؤسسية موجودة بعد تولى أوباما والأرجحأنها ستستمر بعده لعقود طويلة. وكنت قد شرحت فى هذا المكان بالتفصيل أثناءالانتخابات الرئاسية اجتهادى فيما يتعلق بمسألة الأقليات إذا ما فاز أوباما، فقلتإنه بناء على التكوين السياسى للرجل، ثم ما قاله وفعله أثناء الحملة الانتخابيةوقبلها، فإنه من الوارد تماما أن يخذل أوباما سود أمريكا وغيرهم من الأقليات بل أنتتحول رئاسته إلى انتكاسة لحركة الحقوق المدنية عموما. وقد أثبتت الأيام أن ذلك الاجتهاد أقرب للصحة من حديث التحول الراديكالى الذىيروج له البعض. فحصاد العام الأول لحكم أوباما يشير إلى أن أول رئيس من أصل أفريقىلم يحقق إنجازا يذكر فى مجال الحقوق المدنية ولا فى أى من القضايا التى تحتلالأولوية لدى الأقليات الأمريكية عموما. أكثر من ذلك، فقد بدأ التذمر فى أوساطالجماعة السوداء تحديدا يخرج للعلن . ففى الأسابيع الماضية عبر عدد من أعضاء الكونجرس السود عن تذمرهم إزاء أداءأوباما واتهموه علنا بأنه لم يفعل شيئا لسود أمريكا. وقام بعضهم بمقاطعة التصويتلمشروع قانون يريده الرئيس وهددوا بالتصويت ضد رغباته فى مرات قادمة. والحقيقة أن الحساسية التى يتعامل بها أوباما مع قضايا الأقليات وحرصه المستمرلأن ينأى بنفسه عنها يكشفان عن أن مغزى صعوده للرئاسة يذهب لما هو أعقد من المعانىالمسطحة من نوع أن صعوده يعبر عن «عظمة» الديمقراطية الأمريكية أو يمثل تحولا «دراماتيكيا» فى ملف الأقليات. فأوباما، من ناحية، رئيس لكل الأمريكيين لا للسودوحدهم، عليه أن يخدم مصالح الكل. ولأنه يفهم واقع العنصرية فى بلاده جيدا فقد حرص أوباما منذ بداية صعوده السياسىعلى أن ينأى بنفسه عن قضايا الأقليات عموما وقضايا السود تحديدا وعلى التعامل معها- إن اضطر اضطرارا- بحذر شديد. لكن أوباما، من ناحية أخرى، هو فى الوقت نفسه رئيسينتمى للحزب الديمقراطى، حزب الحقوق والحريات المدنية والدفاع عن الفئات الأقل حظافى المجتمع. وفى ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التى تشتد وطأتها بالضرورة على الأقلياتوالقطاعات الأفقر والأضعف فى المجتمع، فإن المتوقع أيضا من رئيس «كل الأمريكيين» أنيولى عناية خاصة لتلك القطاعات تحديدا والتى من بينها السود طبعا. لكن أوباما أثبت أنه أكثر حساسية إزاء اتخاذ أى قرار قد يحمل شبهة انحيازللأقليات عموما وللسود تحديدا. وهو ربما أكثر حذرا من أى رئيس ديمقراطى أبيض سبقهللمنصب! باختصار فإن القيود السياسية فى أمريكا أكثر تعقيدا بكثير من أن تمكن أوبامابجرة قلم من أن يحول الدلالة الرمزية لوجوده فى البيت الأبيض إلى إنجاز حقوقى علىأرض الواقع. لذلك، وبغض النظر عما نقوله عندنا، فقد أدرك الكثير من أبناء الأقلياتفى أمريكا أن تولى أول رئيس أسود للرئاسة رغم ما له من دلالة رمزية مهمة إلا أنه قديتحول لعبء على الكفاح من أجل الحقوق المتساوية لا العكس!