أرحمُ ما فى موت الأمهات، أنهن لن يَمُتن مرةً أخرى. أن ينتهى رعبُ المرء من فكرة فقد أمّه. أذكرُ، وأنا طفلة، أنى ظللتُ أعيشُ هذا الرعب، منذ أدرك عقلى معنى الموت والحرمان ممن نحب إلى الأبد. إذا ما سعلتْ، أخافُ أن تموتَ، ويفرُغ العالمُ من حولى. إذا تأخرتْ، أقفُ بالشرفة، مثل عصفورٍ يرتعد. يتلفّتُ رأسى لأمسحَ الشارعَ من طرفيه، والخوف يفترسُ طفولتى: ألن أراها أبدًا تدخلُ من مدخل العمارة؟! وحينما كانت تمنعنى من اللعب وقراءة «ميكى»، كان «الشريرُ» داخلى يرسم لى عالمًا رغدًا بلا أمّهات يُجبرن أطفالهن على شرب اللبن والمذاكرة والحرمان من الأصحاب واللعب والحلوى، لكنْ سرعان ما ينتفضُ «الطفلُ» داخلى، فأتوقُ للدفء. ولما مرضت أمى، مرضَها الأخير، كنتُ بمجرد أن أتركها، أناصبُ التليفونَ العداء. كلّما رنَّ، أخفقَ قلبى هلعًا من سماع ما أكره. حتى عدتُ إلى بيتى مساء 5 سبتمبر، لأجد الأنسر ماشين يحمل صوت خالى أسامة يقول: «حبيبتى، البقاء الله، أبلة سهير تعيشى انتى!» انهدم العالمُ من حولى، لكن رعبى من فقدها تبدّد للأبد. لن أفقدها غدًا أو بعد غد! فقدتُها بالفعل البارحة! لم تقنع أمى يومًا أننى صرتُ بنتًا كبيرة، ثم فتاةً، ثم مهندسةً، ثم كاتبةً، ثم أمًا لها طفلان! ظلّت ترانى وشقيقى الطبيبَ طفليْن لا نجيدُ من الحياة إلا الاستذكار والتفوق، لكننا «أخيب» من أن نعيش مُستقليْن! تزورنا فى المدرسة لتراقبَ أداءنا الدراسى. ثم تزورُنا فى الجامعة فيسخر منّى الزملاءُ حين توصى أساتذتى بأن يأمرونى بشرب اللبن صباحًا! يملؤنى الحنقُ من الاستبداد واستصغار الشأن، غيرَ مُدركةٍ بعد، أن الأمَّ تظلُّ ترى صغارَها صغارًا، وإن كهِلوا. الأديبُ المصرى السويسرى «جميل عطية إبراهيم» كلّمها بالهاتف يومًا ليخبرها بأنه كان «يكره» «فرجينيا وولف»، لكنّ ترجمتى العربية لأعمالها صالحته على عالم «وولف» الصعب. فما كان منها إلا أن قالت له: «بس عنيدة ولا تشرب اللبن!». ساعةُ الحائط العتيقة هذه، كانت فى بيت أمى. كلما زرتُها أمرتنى بأن أملأها. مصممو الساعات صمموا الزنبرك لتملأه يدٌ يُمنى. وأنا عسراء! وعبثًا أحاول إقناع أمى بأن يمناى أضعفُ من لفّ الياى، ويسراى القويةَ تتعثر فى اتجاه الدوران! فتقول أمى بوهنٍ: رنينُها يؤنسُنى! كنتُ أمقتُ تلك الساعة، وأغارُ منها! لكنْ، حين طارت أمى، وضعتُ كلَّ حبى ووحشتى، فى رنين تلك الساعة التى أضحت أمّى البديلة، إن كان للأمّ بديلٌ. إن توقف دقُّها، أهرع وأملأها بكلتا يدى، لكى يعودَ صوتُ ماما يصدحُ فى أركان بيتى، فينهمرُ الدفء. كتبتُ فى الساعة تلك، قصائَدَ عدة، وتحوّلت إلى أيقونةٍ تظللنى بالرحمة. ربما متأخرًا جدًا، أشكرك يا أمى على حبّك الذى لم أدركه فى وقته. شكرًا على مستر وليم الذى أقنعتِه بأن يتواضع ويأتى من الجامعة الأمريكية ليدرّسَ لطفليك مبادئ الإنجليزية. على «العروسة» التى اشتريتِها وأفهمتِنى أنه مَن اشتراها لكى أحبّه. على تسجيلك الحصصَ على «جروندج» لكى نظلّ نستمع إليها حتى موعد الحصة القادمة. شكرًا على تعليمك لى الالتزام فى القول والعمل. شكرًا على خوفك علىّ، الذى ربما أفقدَنى التواصلَ الصحّى مع العالم، لكنه حمانى من المصاعب. هذا عيد الأم، وأنتِ فى السماء؛ حيث العصافيرُ والزهرُ والبراءة والجمال، وحيث الله وحنوّه. كل سنة وأنت طيبة يا ماما. أجملُ ما فى طيرانك عام 2008، أنّى برئت من خوفى من طيرانك! لأن لا أحدَ يطيرُ مرتين. [email protected]