«بطل الخردة المبتكر».. حدّاد علّم الحديد الرقص في ميت غمر (صور)

تتمايل قطعُ الحديد القديمة في يده كما لو اكتشفت طريقًا سرّيًا للحياة، ترسٌ يتراقص برقة فراشة، وصامولة تلتف في دائرة متوازنة، وفي قلب هذه المفارقة المتقنة، يقف وجدي محمد، شاب من مدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية، واضعًا قاعدة فنية جديدة لإعادة التدوير، ليصبح الرجل الذي علّم الخردة أن تنهض من صمتها، وأن تدور بلا مسمار واحد، كأن بينها وبين الجاذبية اتفاقًا لا يشبه قوانين الأرض.
الموهبة التي حولت الخردة إلى فن متوازن
بدأت حكاية وجدي محمد، من ورشة حدادة صغيرة في مدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية، إذ اكتشف أن بين يديه شيئًا أكبر من مجرد حرفة، فكان يرى في كل قطعة خردة فرصة جديدة، يلتقطها من ورش الميكانيكا، ليحوّلها إلى تحفٍ متوازنة تتحرك وحدها دون أي تثبيت، وكل قطعة في أعماله تدور حول محورها بثباتٍ وثيق، تميل ثم تعود، تتأرجح دون أن تسقط، كأن بين أجزائها اتفاقًا خفيًا لا تراه العين، لا مسمار واحد يجمعها، ولا نقطة لحام تُمسك بها، فقط ميزانٌ دقيق يعرفه هو وحده، يجعل الحديد ينساب كأنه كائن حيّ.
ويقول وجدي محمد، إن بدايته كانت بدافع الفضول داخل ورشة الحدادة، ل«المصري اليوم»: «كنت أدخل إلى الورشة وأجرّب قطعة تلو الأخرى، وأعجبتني الفكرة كثيرًا. لم أتوقع يومًا أن تتحول إلى مهنة احترافية، لكنها كانت قريبة إلى قلبي، فقررت أن أبدأ جديًا قبل نحو خمس سنوات».
ويتابع: «مع الوقت أصبحت قادرًا على تنفيذ أي شكلٍ يخطر في البال، وصناعة قطعة فريدة بذاتها لا تتكرر، وأصبحت أبيع منهم خارج مصر لأكثر من دولة أيضًا.»
ويبتسم بينما تواصل إحدى قطعه حركتها الدائرية المتوازنة، ويقول بثقة صامتة: «كل حاجة ليها وزنها ومكانها... السر في التوازن. لو جزء اختل، الكل بيقع»، إذ يبدع وجدي في ابتكار قطع فنية مُعاد تدويرها من «الخردة»، إلى تحف فنية متوازنة ذاتيًا دون أي أداة تثبتها معًا فتجدها على ارتفاعات كبيرة مكونة من عدد كبير من القطع المعدنية وجميعها تلتف في حركات دائرة أو طولية متوازنة.
فتشاهد أمامك قطعٌ حديدية كان يُفترض أن تنتهي في مخازن الصدأ أو تُرمى في مقلب القمامة، تتحرك أمامك كأنها تخلت عن قسوتها، وتذكّرت فجأة أن للجماد روحًا يمكن أن تستيقظ. وجدي فكرته بسيطة في ظاهرها، لكنها مذهلة في تنفيذها، وهي تتلخص في إعادة تدوير الخردة وتحويلها إلى قطع تتحرك في انسجام، وتبقى في توازن كامل مهما دارت أو اهتزت، دون أن تسقط أي منها.
رقصة الحديد.. كيف يحافظ كل جزء على توازنه بلا مسمار
عن سرّ التوازن الذي حيّر من يراه، يوضح أن السرّ يكمن في توازنٍ دقيقٍ بين جميع الأطراف، يجعل القطعة تهتز في حركاتٍ دائريةٍ انسيابية من دون أن تسقط، رغم أنها غير مثبتة بأي وسيلة. «كل قطعة تدور بذاتها. هي فكرة بسيطة في ظاهرها، لكنها تحتاج إلى تركيزٍ شديد لضبط التوازن حتى لا تسقط أي قطعة. أول عملٍ أنجزته استغرق مني ثلاثة أيام لضبط التوازن فقط، لكن مع الاستمرارية أصبحت العملية أكثر سهولة.» يجمع «وجدي» الخردة من قطع السيارات والدراجات النارية القديمة، ليعيد تشكيلها في هيئة تحفٍ وأنتيكاتٍ فنية.
ويقول «وجدي»: «بدأت أجمع القطع من ورش الميكانيكيين ومن أجزاء الموتوسيكلات والسيارات، وصنعت منها أشكالًا كثيرة، ثم بدأت أبيع بعضًا منها.» في البداية لم يصدق كثيرون أنه قادر على تحقيق هذا القدر من الدقة في التوازن، بل انتقد بعضهم فكرة تحويل الخردة إلى ديكور أو إعادة تدويرها في الأساس. «كنت أشرح لهم أن الفكرة بسيطة، لكنها مختلفة، فهي تفتح المجال للتفكير خارج الصندوق. نحن نعيد استخدام أشياء كانت ستُلقى في القمامة، ونحوّلها إلى أعمال فنية. إعادة التدوير ليست فقط مفيدة للبيئة، بل تنمّي الإبداع أيضًا، فأنا نفسي عندما بدأت لم أكن أمتلك كل هذه الأفكار.
وعن ابتكار الأفكار الجديدة في كل مرة يقول: «أنظر إلى القطع المتاحة أمامي، أبدأ في تجميعها واحدة تلو الأخرى، إلى أن تكتمل الفكرة في نظري»، ومن الفكرة إلى التنفيذ وحتى التسويق، يتولى وجدي كل خطوة بنفسه، ويسافر أحيانًا عشرات الكيلومترات لعرض أعماله في سوق ديانا بالقاهرة، حيث يقدمها كتحفٍ فريدة من نوعها.