من أمام وحدة العناية المركزة في مستشفى خاص بالتجمع الأول، جلس الدكتور عادل أمين، أخصائى الباطنة والقلب، في صمت ثقيل، لا يكاد يرفع رأسه، كأن كل ما فيه تجمد منذ مساء الأربعاء الماضى عندما اشتعلت النيران في جسد ابنته الكبرى، «سما»، طالبة الفرقة النهائية بكلية طب الأسنان بجامعة القاهرة، إثر انفجار مفاجئ في خط غاز بطريق الواحات، أسفر عن مصرع 4 أشخاص على الأقل وإصابة 11 آخرين. «الحقني يا (عادل).. (سما) بتولع!» «بنتى كانت راجعة من الجامعة، من يومها وهى بتسابق الزمن علشان مشروع تخرجها»، قال الأب ل«المصري اليوم» بصوت متقطع اختلط فيه الحزن بالغضب، مضيفًا: «قبل الحادث بيومين كانت بتقولي يا بابا تعالى شوف البدلة اللى هشوفك بيها يوم المناقشة.. كانت بتعتبره يوم فرحها.. دلوقتى هي بين الحياة والموت، بتتنفس بجهاز». عند الخامسة والربع مساء الأربعاء، تلقى الأب اتصالًا من ابنته قالت فيه إنها على مشارف مدينة 6 أكتوبر، عائدة من الجامعة. «قالتلى: يا بابا أنا جاية، الطريق زحمة، بس كلها خطوات وهكون في البيت»، يتابع الأب، قبل أن يختنق صوته: «بعدها بدقايق، سمعت صراخ أمها من الأوضة التانية: الحقني يا (عادل).. (سما) بتولع!». لم يكن الصوت على الهاتف صوت «سما»، بل صوت رجل غريب أبلغهم بأنها أُصيبت في حادث، وحالتها خطيرة. هرع الأب إلى موقع الانفجار، ليجد ابنته تحاول النهوض رغم النيران التي التهمت أجزاءً كبيرة من جسدها. «شلتها على إيدى، ونقلناها بسرعة على مستشفى خاص، وبعدها لمركز متخصص في الحروق.. حالتها كانت حرجة جدًّا، والوقت كان بيفرق». ويؤكد الأب أن ابنته، 22 عامًا، لم تكن فقط متفوقة دراسيًّا، بل كانت تقاوم الإعاقة منذ سنوات: «كان عندها إصابة في إيدها من حادثة عربية قديمة، ورغم كده ما غابتش عن امتحان واحد.. كانت بتقولّى: مش هسمح لحاجة توقفنى». ويضيف: «كانت بتستعد لتسليم مستندات مشروع تخرجها الأسبوع اللى بعد الحادث.. كانت بتتجهز كأنها عروسة». «لسة في عمليات تانية جاية» ويرى الأب أن ما حدث لابنته «نتيجة إهمال جسيم يصل إلى حد الجريمة»، ويتهم بشكل واضح كُلًّا من: وزارة الإسكان، ممثلة في جهاز مدينة 6 أكتوبر، ووزارة البترول، ممثلة في شركة ناتجاس، وشركة المقاولات التي كانت تنفذ الحفر، مؤكدًا أن المسؤولية تضامنية. «دى مش حادثة، دى جريمة. إحنا عندنا معلومات مؤكدة إن سكان الكمبوندات المحيطة بموقع الانفجار شمّوا ريحة غاز قبل الحادث بساعات، وبلغوا شركة الغاز، ومحدش اتحرك»، يقول الأب، متسائلًا: «ليه ما اتبعتوش إجراءات الصحة والسلامة؟!. ده خط رئيسى ضغط 7 بار.. مش خط أنبوبة في شقة!». ويتابع: «بيانا مجلس الوزراء ووزارة البترول قالا إن الحادث حصل بسبب أعمال حفر بدون تنسيق من شركة مقاولات مع شركة الغاز.. طيب فين إشراف الجهاز؟. هل المقاول كان بيحفر بخريطة؟.. فين خريطة المرافق؟!». ويؤكد الأب أن ما حدث لا يمكن فصله عن تقاعس ممنهج من الجهات الثلاث: «كلهم مسؤولين.. اللى حفر، واللى ما نسقش، واللى تجاهل بلاغات التسريب». ويكشف الأب عن الحالة الصحية الحرجة لابنته، قائلًا: «الطبيبة قالتلى إن نسبة الحروق في جسمها وصلت ل45%، دخلت عملية واحدة، ولسة في عمليات تانية جاية.. ما فاقتش من يوم الحادث، وما اتكلمتش ولا مرة واحدة». ويضيف بصوت متهدّج: «إحنا من يوم الحادث عايشين في المستشفى، مش قادرين نسيبها لحظة، وأخوها (عمر) مش بينطق كلمة من ساعتها». ورغم صدمة الأب وانشغاله بالعلاج، فإنه يعتزم اتخاذ كل الإجراءات القانونية ضد الأطراف المسؤولة. «أنا بختصم شركة الغاز، وجهاز أكتوبر، والمقاول.. ومش هتنازل»، مشيرًا إلى أنه تلقى اتصالًا من أحد ممثلى شركة المقاولات يعرض «التفاهم» والتعويض، لكنه رد عليه: «ولا فلوس الدنيا تساوى ضُفرها». «إهمال جماعي تسبب في كارثة» وكانت وزارة البترول قد أصدرت بيانًا قالت فيه إن الحريق ناتج عن «قيام إحدى شركات المقاولات بأعمال حفر دون تنسيق مسبق مع شركة ناتجاس للغاز الطبيعى»، ما أدى إلى اشتعال خط الغاز بضغط 7 بار عند مدخل أكتوبر بطريق الواحات. وأكد البيان أن فرق الطوارئ عزلت الشبكة في منطقة الاشتعال، وتمت السيطرة على الحريق، مشيرًا إلى أن الخدمة عادت إلى العمل، وجارٍ إصلاح الخط، مع تقديم العزاء لأسر الضحايا. لكن بالنسبة لعائلة «سما»، فإن هذا البيان لا يكفي: «البنت اتحرقت لأنها ماشية في شارع سايبينه من غير تأمين.. إهمال جماعي تسبب في كارثة».