انطلقت أمس السبت فعاليات المؤتمر الدولى الخامس لكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر بالقاهرة، برعاية الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، تحت عنوان «بناء الإنسان فى ضوء التحديات المعاصرة»، وذلك بحضور الدكتور محمد الضوينى، وكيل الأزهر، والدكتور نظير عياد، مفتى الجمهورية، والدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، وبمشاركة لفيف من علماء وقيادات الأزهر وأعضاء هيئة التدريس بالجامعة. وأكد الدكتور محمد الضوينى، وكيل الأزهر، خلال كلمته بالمؤتمر، أن بناء الإنسان والنهوض به وسط عالم متلاطم الأمواج، مضطرب الغايات والأهداف، يعد قضية أمن قومى لوطننا، وهدفًا استراتيجيًّا يتطلب تضافر جهود كل مؤسساتنا لتحقيقه، وهذا البناء ليس كلمات أو شعارات، وإنما صناعة ثقيلة فى ظل ما يموج به العالم المعاصر من تغيرات وتقلبات فى مجالات العلوم النظرية والتطبيقية على السواء. وأوضح، خلال كلمته بالمؤتمر الذى يُعقد بمركز الأزهر للمؤتمرات، أن التغيرات من حولنا تحاول أن تقتحم أفكارنا وعقائدنا واتجاهاتنا، ومن ثم فإن الواجب أن نتمسك بالثوابت والأصول والأسس، وأن يُبنى إنسان هذه الأمة على أرض صلبة من العقيدة والتاريخ واللغة والقيم ومكونات الهوية. خاصة أننا نعيش زمانًا مشحونًا باشتباكات فكرية، وتدافع سياسى، واستقطابات حادة، ومحاولات مستميتة لتدمير دول وشعوب باستخدام أساليب متنوعة، تسعى إلى قطع الإنسان عن عقيدته وهويته، وسلخه من تاريخه وحضارته. مشيرًا إلى أن هذا المؤتمر يأتى تحقيقا لمبادرة «بداية جديدة لبناء الإنسان» التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى، رئيس الجمهورية، والتى تهدف إلى الاستثمار فى رأس المال البشرى المصرى، من خلال تنمية شاملة ومتكاملة للإنسان فى مختلف الجوانب الحياتية، بما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة، ورؤية مصر 2030. وبيَّن وكيل الأزهر أن الحضارة الحديثة استخدمت كل أدواتها وتقنياتها للوصول إلى ما تريد، واستحلت فى سبيل ذلك كل شىء، حتى زَيَّفَت المفاهيم الشريفة الراقية، وباسم الحريات والحقوق تحاول منظمات ودول أن تعبث بأفكارنا، وأن يجعلوا القبيح حسنًا، والحسن قبيحًا، وبالغوا فى ذلك جدًّا حتى أرادوا أن يجعلوا الأرض لغير أهلها، وأن يستهدفوا عقول شبابنا بأفكار تأباها قواعد المنطق، ويرفضها التاريخ، فأبناء الأمة إما مستهدَفة أجسامهم بالقتل والموت كما فى فلسطين، وإما مستهدَفة قلوبهم بالشهوات والفتن، وعقولهم بالتزييف والتحريف كما فى كثير من بلادنا. ودعا وكيل الأزهر إلى التيقُّظ لعدوِّنا الذى لا يكلُّ ولا يملُّ، وأن ندركَ هذه التحدياتَ ببصيرتنا وأبصارنا، وأن نفقهَ بقلوبنا وعقولنا، وأما الأمةُ فمنصورةٌ بإذن الله، غيرَ أنَّ اللهَ يربِّيها بهذه السنن الكونية. وفى هذا السياق، هنَّأ فضيلتَه مصرَ والأمةَ العربيةَ والإسلاميةَ بذكرى تحريرِ سيناء، التى استطاعت فيها الأمةُ أن تنتصرَ، وأن تقومَ بالدفاعِ عن الأرضِ والعرضِ، يومَ فهمت عن ربِّ العالمين مرادهُ منها، ويومَ عرفت قدرَها وقدرتها، ومكانتها وأمانتها، يومَ كانت الأمةُ كالجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمى. وفى ظلِّ ما تعانيه بلادُنا الفلسطينيةُ من جرائمِ حربٍ ممنهجةٍ لم تعرفها الإنسانيةُ عبرَ تاريخِها ولا فى زمنِ الغاب، تأتى هذه الذكرى فتحيى فينا آمالَ النصر، وتؤكدُ أن الأمةَ قادرةٌ على كسرِ القيودِ والأوهامِ، وإنَّ اللهَ على نصرِ الأمةِ لقديرٌ. وشدد على أنه فى ظلِّ ما يشهده العالم من تفككٍ قيمي وأخلاقى، وتبدُّلاتٍ ثقافية، وثورةٍ معلوماتية جارفة، بات لزامًا على البشرية أن تتمسك بهدى السماء؛ إذ لا ضمان لبناء إنسانٍ متوازنٍ إلا بالثبات على القيم الربانية التى تصونه من الذوبان فى غيره، وتُكسبه هويةً راسخةً لا تبهتُ مع الأيام، بل تزداد رسوخًا وأصالة. ومن هذا المنطلق، فإن إعادة بناء الإنسان وفق مقاصد الشريعة الإسلامية يُعدُّ المدخلَ الحقيقى لمواجهة هذه التحديات؛ إذ تعنى الشريعة ببناء الإنسان روحًا وعقلًا، جسدًا ونفسًا، سلوكًا ومبدأ، وترسم أطرًا متماسكة لحياته الفردية والجماعية. وفى ضوء ذلك، يضطلع الأزهر الشريف بمسؤوليته التاريخية فى مواجهة حملات التمييع وتزييف المفاهيم التى تستهدف الأذهان، من خلال إنتاج علمى وفكرى متين، ومؤتمرات دولية مؤثرة، وجهود ميدانية واعظة، تعمل جميعها على تفكيك الاتجاهات المنحرفة، وردِّها إلى أصولها، حمايةً للشباب وصيانةً للفكر. وأكّد أنّ بناء الإنسان مسؤولية جسيمة تتطلّب إعداد الأجيال، وتنمية العقول، وتهذيب الأخلاق، واكتشاف الطاقات الكامنة فى الشباب وتوجيهها التوجيه الأمثل، على أساس من العقيدة الراسخة، والفهم السديد، والاطلاع على تجارب العالم وخبراته. وإذا كانت الأسرة تضع اللبنة الأولى فى هذا البناء، فإن مؤسسات التعليم تُشكّل عقل الإنسان وضميره، وتتحمل اليوم مسؤوليات مضاعفة فى ظلّ عالم متسارع يموج بالتقنيات والتحوّلات. ولم يعد كافيًا –كما شدّد فضيلته– أن نقدّم المعرفة فى حدود الحفظ والاستظهار، بل لابدّ من بناء الإنسان بناءً متكاملًا يملك التفكير النقدى، والتحصين القيمى، والاتزان الوجدانى، مما يقتضى مراجعة جادّة للمناهج والسياسات والخطابات، لنعرف: هل نُخرج إنسانًا صالحًا حرًّا مسؤولًا، أم مجرد نسخ مكررة لا تملك الاستقلال فى الرأى ولا فى المأكل والملبس؟. وأشار وكيل الأزهر إلى أنّ أهمية هذا المؤتمر تكمن فى عنوانه الذى يسلّط الضوء على العلاقة بين الآمال والطموحات فى بناء الإنسان، وبين المخاطر والتحديات التى تواجهه. كما أنّه سيضع لبنة جديدة فى هذا البناء المنشود، وفق رؤية شاملة تستهدف بناء الإنسان من جميع جوانبه الفكرية والعقدية والاجتماعية، وترسيخ منظومة القيم والأخلاق والمثل العليا فى المجتمع. وهذه رؤية تقف على جذور الماضى، وتحسن قراءة الواقع واستثمار معطياته. كما تتأكد أهمية المؤتمر فى قدرته على رسم السياسات، واتخاذ القرارات المناسبة تجاه التحديات المعاصرة التى تواجه بناء الإنسان، والتعامل معها بإيجابية وواقعية لمواجهتها. وفى ختام كلمته، أكّد وكيل الأزهر على ثلاث إشارات مهمة: الأولى، أنّ بناء الإنسان ليس مجرد فكرة مثالية أو أمنية شاعرة أو خطبة عصماء أو حبرًا على ورق، بل هو ركن دينى وواقع تطبيقى وثمرات نافعة، ومن ثم يجب أن يكون المؤتمر بمثابة رؤية نقدية لواقع بناء الإنسان، ويقترح برامج عملية لتدارك ما يجب تداركه. الثانية، أنّ بناء الإنسان ينبغى ألا يتوقف عند حدود جغرافية خاصة، بل يجب أن يتعامل مع العالم بما فيه من تغييرات وقيم متقلبة، مع ضرورة التمسك بالهوية الوطنية والتاريخية. أمّا الثالثة، فقد شدّد على ضرورة إيجاد توازن بين متطلبات الروح والعقل والجسد فى بناء الإنسان، مع أهمية الاستفادة من عطاء العصر من غير تهديد لخصوصية أو عبث بمكونات هوية، وتبنى مهارات التفكير النقدى وحلّ المشكلات والتعلّم المستمر. مختتمًا بالدعاء أن ينصر الأمة على أعدائها، وأن ينشر فى ربوعها العلم الذى يعصم من الجهالة، والهدى الذى يحفظ من الضلالة، والنور الذى يبدّد الظلمات. وأكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتى الجمهورية، أهمية توظيف الفقه الإسلامى وأصوله فى مواجهة التحديات المعاصرة التى تعيق بناء الإنسان، مثل العولمة الثقافية والغزو الفكرى وفقدان الهوية. وأشار عياد، خلال كلمته إلى أن التحديات الراهنة التى تعيق مهمة بناء الإنسان تشمل أيضًا «فوضى الفتاوى» والتغيرات الجيوسياسية، مؤكدًا أن المؤسسات الدينية كالأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف تبذل جهودًا كبيرة فى نشر الوسطية ومواجهة الأفكار المنحرفة، قائلا «لا بد من تعاون مؤسسى شامل لتكثيف الجهود فى حماية الإنسان وتحصينه بالإيمان والمعرفة والانتماء». واستعرض مفتى الجمهورية جهود الفقهاء التاريخية فى مراعاة مصالح الإنسان عبر قواعد مثل «سد الذرائع» و«فقه الأولويات»، مشيرًا إلى أن هذه المنظومة مكّنت الفقه الإسلامى من التكيف مع متغيرات العصر، مؤكدا أن خصائص المرونة والسعة فى الفقه جعلته قادرًا على استيعاب النوازل وضمان استقرار المجتمعات. وطرح عياد خلال مشاركته بالمؤتمر عدة مبادرات علمية ومجتمعية، منها: إعداد »معلمة بناء الإنسان فى ضوء الفقه الإسلامى« وذلك بالتعاون بين دار الإفتاء وكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، وإطلاق جائزة سنوية لأفضل بحث علمى يسهم فى تأصيل مفاهيم بناء الإنسان، وتطوير مناهج جامعية متخصصة فى فقه بناء الإنسان تجمع بين الأبعاد التشريعية والمقاصدية، اضاف إلى إصدار سلسلة كتب مبسطة تستهدف الشباب لتوضيح دور الفقه فى مواجهة التحديات المعاصرة، داعيا إلى تعزيز مشاركة كليات الشريعة فى الفعاليات التوعوية، قائلًا: التحديات تتطلب تضافر الجهود الأكاديمية والمجتمعية لترسيخ القيم الدينية والإنسانية. وقال الدكتور محمد الجندى، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، خلال كلمته، إن بناء الأوطان لا يتحقق إلا ببناء أركان البنيان، وهو الإنسان، وذلك عبر تعزيز الجوانب العقدية والأخلاقية والعقلية، محذرًا من مخاطر الانسياق وراء المادية المُفرطة وتجاهل القيم الروحية. وحدد الجندى ثلاثة مسارات رئيسية لتحقيق هدف بناء الإنسان، أولها «المسار العقدى والإيمانى»، مشيرا إلى دور الأزهر التاريخى فى ترسيخ العقيدة الصحيحة، مستشهدًا بجهود علماء كبار مثل السنوسى والحفنى والغزالى، مؤكدًا أن منهج الأزهر العقدى يحصن الفرد من محاولات الهدم الفكرى، واصفًا تلك المحاولات بأنها أوهن من بيت العنكبوت. وأوضح الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية أن ثانى مسارات بناء الإنسان هو «المسار الروحى والأخلاقى»، محذرًا من التحديات المعاصرة التى تستهدف القيم، مثل الترويج للشذوذ وهدم كيان الأسرة، قائلا «لا أعرف زمانًا واجهت فيه الأخلاق والقيم تحديات كهذا الزمان الذى لا تخجل فيه بعض الفئات من التصريح بالشذوذ والعوج، وغير ذلك من الدعوات الهدامة التى تستهدف القيم والأخلاق والأسرة واللغة والعادات والتقاليد»، مشيدًا بمنهج الأزهر فى الربط بين العقيدة والسلوك عبر تراث علمائه، ومنهم العز بن عبد السلام وابن حجر العسقلانى، الذين رسخوا مفهوم تهذيب النفس. وأضاف الجندى أن «المسار العقلى والمعرفى» هو ثالث مسارات بناء الإنسان، مشددًا على أهمية بناء العقل كأداة لفهم الدين ومواجهة التحديات الفكرية، مستندًا إلى أقوال أئمة الأشاعرة مثل الجوينى والفخر الرازى، الذين أكدوا أن العقل «نور يُهتدى به إلى الحقائق»، داعيًا إلى ضرورة تعزيز الابتكار العلمى، مستذكرًا إسهامات علماء مسلمين مثل ابن الهيثم والخوارزمى. وربط الجندى بين تفكك المجتمعات وإهمال بناء الإنسان، قائلًا: «هدم الإنسان نتيجة حتمية لإهمال الأخلاق والروح»، مستشهدًا بقصة قوم لوط وعقابهم الإلهى، مشيدًا بدور الأزهر بقيادة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، ووكيله الدكتور محمد الضوينى، فى دعم مشاريع بناء الإنسان عبر برامج تعزز الوعى الدينى والأخلاقى والتكنولوجى، داعيًا إلى تعاون عالمى لإرساء السلام ومواجهة محاولات زعزعة الاستقرار الإقليمى. واختتم الجندى كلمته بتأكيد أن حماية الأوطان مرتبطة بصناعة أجيال تحفظ القيم وتتمسك بالعلم، قائلًا: «أجيال تجسّد عطاء ابن حيان والخوارزمى، وتواجه تحديات العصر بعقل واعٍ وإيمان راسخ». وأكد الدكتور عطا عبد العاطى السنباطى، عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، على أن «بناء الأوطان يبدأ ببناء الإنسان»، مشيراً إلى أن هذه المهمة «شاقة وصناعة ثقيلة» تتطلب تضافر كافة الجهود الفكرية والعاطفية والاجتماعية والروحية والجسدية. وأوضح السنباطى أن المؤتمر يأتى انطلاقًا من «واجبنا فى دعم القيادة السياسية والاتساق مع توجه الدولة المصرية نحو تحقيق التنمية المستدامة والارتقاء بمستوى الفرد والمجتمع». وأضاف عميد كلية الشريعة والقانون أن المؤتمر يهدف إلى «الوقوف جنبًا إلى جنب مع دولتنا وقيادتنا السياسية من أجل واقع أفضل ومستقبل مشرق»، مؤكدًا أن «الإنسان هو محور البناء ومرتكز الوجود الحضارى»، مبينا أن بناء الإنسان يتحقق عبر ثلاثة عناصر أساسية هى: «الرؤية الواضحة والقيم الثابتة، والأداة الفاعلة».