بعد فرحة تسلمى كتابى الجديد، هربت يومين من قراءته.. لخوفى أن يعتقلنى كتاب عنوانه «حياة فى الوطن والسينما»، وكاتبه هو الحكاء الأعظم، مصور أعماق البشر والطير والبحر والشجر، الفنان «سعيد شيمي». طبعًا غلبنى، كلبشنى فى شرفة طفولته المطلة على قصر عابدين وهات يا عرض أزمنة.. مواكب ملوك، حمام سباحة أميرات قصر عابدين، نفير صحيان، ثورة يوليو.. خطب عبد الناصر، إعلان قرارات ثورية تبدل الحلم واقعًا فورًا، وتنفى الواقع الظالم.. قصور فخيمة تتحول إلى مدارس وجامعات مجانية.. أعياد الثورة تبدأ باستعراض إخوتنا الكبار، تلامذة ثانوى بزى الفتوة فى شوارعنا، وأزيز طائرات هليوكوبتر منخفضة تلقى أكياس الهدايا وعلم مصر على أسطح منازلنا.. أقرأ فأنصت وأتأمل، أبصر، أغوص معه فى الزمن وأطفو.. تحيا وجوهًا رحلت وتعلو أصواتها!! أجدادى، طفولتى، عنترية شبابنا، ملامحنا ومشاعرنا.. شوارعنا الباريسية، فستان العيد من شارع فؤاد، أناقة أمهاتنا وجيراننا فى البيت وفى الشارع، رقى الحياة والأخلاق فى مصر، ونسة جيران هم عائلاتنا.. تنتعش روحى بألبوم ماضينا الحافل بالأحداث وتحدى القدرات.. عشنا محطات سريعة بدلت وصف الوطن، نمنا زراعى خانع استيقظنا زراعى صناعى ينتج احتياجاته ويصدر الذهب الأبيض.. صور شيمى قلب بلادى الجميلة ببساطة وصدق حواديت أب يسلم رسائله. أقرأ فأشعر بالرضا، لأننا عشنا جيل هذه الثورة.. حكى الحكاء المدهش المندهش، عارضًا لوحات سيرته الذاتية على خلفية الوطن.. كملاغية شهرزاد للملك، لينام مطمئنًا مترقبًا النهاية السعيدة.. لكن سعيد شيمى صمت، لأن النهاية السعيدة هى بيد من هم خارج أسوار القصر!! فى يومين التهمت 246 صفحة بوزن حياتنا وعمق تاريخنا.. أرتوى من محطات اكتملت، وأقف معه ترقب وصول آخر محطة.. أبدا القراءة ظهرًا، وأنسحب مع الغروب وقد تيبست عضلات كتفى اليسرى من قبضة كفى على كتاب، غلافه ابتسامة سعيد شيمى التى تغشش الإجابة.. خرجت من بين الغلافين، وعصورًا تحاصرني!! جمع شيمى شمل حضارات متنافرة اقتحمت حياتنا بنفس الأطماع!! استعمرنا كل قادر أن يتنعم ويتبغدد بجيوشه وأودهاؤه، عشنا فواعلية بلقمتنا تحت سيادة ناهبينا، مطيعين مبهورين من قوة نظم إدارة وقانون!! عشنا فرائس سهلة عقودًا، شعب طيب يبنى كنائس وجوامع، يصلى الفجر، يزرع ويخدم وينام من المغرب، جاهل فقير لكن مؤمن راض بالمقسوم.. تنهشنا وحوش رأسمالية تغربلنا وتصنفنا طبقات.. تؤسس تعليمًا وإدارة موجهة لخدمة مصالحها، لكنها تنير بصائر جيل صاعد.. تنجح ثورة يوليو سلميا، نتسلم مصيرنا عهدة، ميثاقنا مطبوع نشيد حفظ على ظهر أغلفة كراريس ابتدائى.. حكم ذاتى، عدالة اجتماعية تبدأ بمجانية تعليم، رعاية صحية، تصنيع وإنتاج مصرى.. تظهر البشائر سريعًا فى الستينيات، تعليم وفن وثقافة، تصنيع وفلاح له صوت انتخابي!! نصطدم بزلزال النكسة، توابعها تنعش التحدى.. ينكش سعيد شيمى فى ذاكرتنا خالطًا الخاص بالعام.. قطاره السريع يرصد ويقدم حصاد الوطن. انتهيت وأنا ألهث، تنفست لأكتب سريعًا لسعيد شيمى: «خلصت الكتاب.. أنت قلت كل اللى باحلم أقرأه وأكتبه.. شكرا على جرعات الوطنية والإنسانية....» أجابنى بتواضعه الجميل: «.... هى محاولة لرؤية الصورة التى شفتها وعشتها وفكرت فى وضعها.. وهو مخطط متدرج من عصر الانفتاح.. وصورة حياتى التى بقدر عزيمتى وصلابتى مررت بها.. صعيدى وكمان شامى عنيد عاوز أعمل ما حلمت به وممكن يكون مختلف وكويس لسينما بلادى.. لتتعرف الأجيال على أبطالهم العظماء...». تعليق سعيد شيمى لخص مسيرته وحلمه!! غاص بحرفية صاعدًا ببانوراما لهويتنا تفيض على القارئ عشقًا للوطن.. والإلحاح فى الإفراج عن بطولات جيشنا فى تحرير سيناء، الموثقة أفلامًا حية فى حينها!! محاولة تلخيص كتاب «حياة فى الوطن والسينما» تظلم الكاتب والقارئ.. الكتاب همسات إنسانية خاصة وعامة، بوح نبيل لروح أبصرت وصورت مغزى حياة عاشتها مغامرة، مكاسبها أفراح ضمدت جراحاتها.. التقطها شيمى ولضمها مشاهد تتجدد عبر تاريخنا كوطن تتنازعه نمور متوحشة، وتدفع الثعالب الجائعة لالتهامه كى تلتهمها هى وجبة دسمة.. كتب شيمى بانوراما حياته والوطن هدية للأجيال تحملهم مسؤولية انتزاع مستقبل مستحق لهم للوطن. الكتاب شاشة عرض ملامح مصر بالتفصيل الجميل، بالبوح والتشويق.. ثبت شيمى عدسات قلبه ووعيه على شاريو الزمن، راصدًا وقائع غزلت نسيجنا المصرى وهويتنا.. وطننا هو ميراث أولادنا، أمانة نقية عصية على الامتزاج بغير أبنائها. التصوير والفنون التشكيلية والتاريخ أضلع مثلث العلم والعشق فى حياة سعيد شيمى.. يحتفى باليونانيين، شركاء حضارة منذ الدولة البطلمية، اختلطوا بنا دماء وروحًا وعقيدة وأسسوا فن التصوير الفوتوغرافى بمصر. ويذكر فضل الأرمن رواد التصوير والسينما والبقالة وأعمال الزنجوغراف والحلى والمجوهرات، الهاربين إلينا من مذابح العثمانيين.. يقارن حال الريف المصرى تحت رحمة الإقطاع وعطايا حكام أتراك واستغلال أوروبى.. يستعرض أصوله وفروعها الممتدة شرقا من إسطنبول لسوريا.. يصحبنا لمنزل الطفولة والشباب المواجه لميدان عابدين أيام الملكية.. نراه طفلًا صغيرًا لا يستطل طوله عن سور الشرفة، يستيقظ فجرًا على صفارة غارة الحرب العالمية الثانية، وينام على صيحات «طفوا النور»، وسماء تضيئها كشافات الميدان العملاقة تفتش عن طيران العدو الصهيونى- وما زال!!- نزور الناصرية، مدرسته الابتدائية وكانت قصرًا خديويًا تملؤه الزخارف، وتماثيل الحوريات عاريات الصدر (!!) ولا زالت ذاكرته تحفظ صورة تيجان أعمدتها التى تضفى جمالًا وجلالًا على المدرسة.. الرحلات المدرسية للمتاحف المصرية (الأوبرا الآن) والقبة السماوية، تنبه إحساسه بالجمال، وتدفعه لعشق دراسة التاريخ والفن.. عاشت مصر- صرة العالم القديم- اقتصادًا استغلاليًا استيطانيًا أوروبيًا طويلًا.. انتهى بثورة، وسقط بنكسة وانهار بانفتاح. الكتاب إصدار دار «الهالة للنشر والتوزيع» واعتبرها شريك توثيق، لاستحواذها على أغلب إصدارات الفنان سعيد شيمى. واتوقف فى هذا الكتاب الهام عند ميراث بطولات الجيش حماة وطننا.. الذين تتبع شيمى خطواتهم مع عبد الناصر منذ ثورة 52، دفع الشعب ضرائبه تضحيات، ونزيف عسكرى ضمده دوى نصر 6 أكتوبر.. عدسة سعيد شيمى تغوص وترصد مشاهد عبورنا من الخزى للكرامة، يشترك فى حرب الكرامة بالتصوير تحت القصف، حتى لحظة الانتصار الرهيبة برفع علمنا على أرضنا المحتلة فى سيناء.. سلم وثائق فخرنا أمانة وميراثًا لأولادنا فتم حفظها أرشيفًا!!! معقول!! أمريكا رائدة شيطنة الإعلام انفردت بتجارة أفلام معارك أبادت فيها ضحايا أبرياء فى فيتنام!! ذئبًا صور نفسه حملًا وديعًا وهو الذى التهم جنوده وحرق فرائسه!! أغرقوا العالم بأفلام تعظم إنسانيتهم فى حروب هم مشعليها!! تربحوا سياسيًا وأثروا تجاريًا من أسلحة التدمير وإعلام الترهيب وتمجيد الرأسمالية وإشعال الفتن.. وتكنولوجيا التغييب ومصائد القروض ومخالب الديون!! جمع شيمى بطولات جنودنا مشاعل للأجيال القادمة، نطالب بالإفراج عنها لأن آلامها أطيابًا!! وشكرًا على كتاب حياة الوطن والسينما.