من قلب الحضارة الفرعونية، وُلد عيد شم النسيم، حين كانت البيضة رمزًا للبعث، والبصل الأخضر تعويذة للشفاء، والخس إشارة الخضرة والنماء لنهر لا يعرف الجفاف، أما الأسماك المملحة فلم تكن مجرد طعام، بل طقس موثق على جدران المعابد، يربط بين المائدة والكيان المقدّس حين يبدأ فصل الربيع، الموعد السنوي مع البهجة الذي يتجدّد منذ آلاف السنين من ضفاف النيل إلى جبال آشور في العراق، ومن سهول الموصل إلى حدائق المغرب، احتفلت الشعوب ببداية الحياة، كلٌّ بلغته وبطقوسه، لكن الحلم كان واحدًا: الخصب، والحب، والخلود. شم النسيم وطقوس لا تنقرض مرّت العصور بعد زمن المصريين القدماء وجاءت الدولة القبطية، ثم دخل الإسلام أرض النيل، لكن الاحتفال لم يتوقف، بل أضاف الفاطميون طابعهم الخاص، من مواكب، وهدايا، وشراب الليمون بأمر الخليفة، وحتى في عهد المماليك، ظل المصريون أوفياء ليومهم الأخضر إلى أن جاءت الحملة الفرنسية فأطفأت الاحتفال ثلاث سنوات، لكن محمد على أعاده للحياة، في الاثنين الذي يلي عيد القيامة، وفقًا لما ورد في كتاب للمقريزي بعنوان: «السلوك لمعرفة دول الملوك». في سوريا.. عشتار تنهض كل ربيع في الأرض التي رقصت على أنغام الدبكة منذ آلاف السنين، تحتفل سوريا بعيد «الأم الكبرى عشتار»، إلهة الخصب والحب، التي ترمز لها شجرة لا تعرف الذبول، وكما الحال في جارتها مصر، يقترن العيد هناك بالحياة المتجددة، بالرقص والغناء، وبأمل لا يذبل في أرض الشام. ولا يقتصر الربيع السوري على عشتار، فهناك أيضًا رأس السنة السورية، التي تبدأ في 25 مارس، وتستمر لعشرة أيام من الفرح، حيث الرقصات الشعبية القديمة تعود لتحيي تقاليد تكرّم الطبيعة في موسم عطائها الأعظم. في العراق.. النيروز بين الشعر والموسيقى يأتي الربيع إلى العراق ومعه القصائد والموسيقى والاحتفالات التي تعرفها الموصل جيدًا، حيث يتلاقى التراث مع الحداثة في مهرجانات النيروز، التي كتب عنها الشعراء وغنّى فيها كبار الفنانين، من عبدالحليم حافظ إلى فايزة أحمد، ليرحبوا بربيعٍ طال انتظاره. وفي البيوت، تزيّن أطباق الكعك والحلويات العراقية موائد الشعب طوال أيام إبريل. في المغرب.. حدائق وألوان وحكايات أما المغرب، فيستقبل الربيع بعطلة رسمية يخرج فيها الناس إلى الحدائق، يحملون خبزهم الموسمي، وبيضهم الملوّن، وكؤوس الشاي الأخضر بنكهة النعناع في احتفالٍ يشبه شم النسيم المصري، لكنه يُروى هناك برواية مغربية خاصة، حيث الزمن يدور على إيقاع الزراعة والتقاليد. في الجزائر.. «ثافوست» تصنع ربيعها الخاص «ثافوست»، الكلمة الأمازيغية التي تعني الخصب وعودة الحياة، تلخّص الروح الجزائرية في عيد الربيع، اليوم الذي يخرج فيه الشباب على صهوات خيولهم في عروض الفروسية، بينما تجهّز النساء «المبرجة»، وهي خليط السميد والتمر. وفي أرجاء البلاد الإفريقية، تتردّد الأغاني البهيجة، مثل: «شاو ربيع ربعاني.. كل عام تلقاني.. في العطيل الفوقاني»، و«أنشودة تنتظر الربيع في مكانها العالي.. كأن الحياة تتوقف هناك إلى أن يعود».