أول دستور وأول برلمان فلسطينى وتنظيم القضاء والقانون.. كل هذه صفحات تاريخية مضيئة فى تاريخ العلاقة بين مصر وفلسطين، وخاصة قطاع غزة، فقد حفظ هذا الجلس لقطاع لغزة كيانه وهويته الفلسطينية، بشهادة الفلسطينيين أنفسهم. الكل يعرف أن مصر هى الراعى الأول للقضية الفلسطينيية، وأنها حملت لواء الدفاع عن هذه القضية فى المحافل العربية والدولية، فجذور العلاقة وقوتها بين الشعبين الفلسطينى والمصرى أقوى من كل محاولات التزييف والكذب، ويدرك القاصى والدانى أن مصر بدورها الحضارى والجغرافى ومبادئها الراسخة كانت- ومازالت- القوة الرئيسية فى إقليمها وقبلة العمل العربى ودفته الرئيسية، وانطلاقا من هذه الحقيقة الراسخة تحملت مصر عبر مراحل التاريخ المختلفة مسؤولياتها الجسام فى الدفاع عن الأمة العربية، وارتباط مصر بقضية فلسطين هو ارتباط دائم ثابت تمليه اعتبارات الأمن القومى المصرى وروابط الجغرافيا والتاريخ والدم والقومية، مع شعب فلسطين. من خلال السطور التالية نتناول تاريخ قطاع غزة الذى أصبح يدار من قبل حاكم إدارى مصرى، وتأتى شهادة مصرى أتاح له القدر أن يرى عن قرب بعض الوقائع المهمة وأن يشارك فى صنع بعضها المستشار «عصام الدين حسونة»، رئيس المحكمة العليا فى غزة وقتئذ، وشارك فى تنظيم القضاء والقانون، ووضع أول دستور وأول برلمان فلسطينى ليكون نواة للكيان الدولى الفلسطينى، والتى سجلها فى كتابه «23 يوليو.. وعبد الناصر: شهادتى»، بالإضافة إلى بعض الكتب التى تناولت هذا الموضوع. أوجز الدكتور مفيد شهاب فى كتابه «مصر والقضية الفلسطينية» للتاريخ العلاقة الحديثة والمعاصرة بين مصر فى فلسطين موضحاً أنه قبل ثورة 23 يوليو 1952 كان ما يجرى فى فلسطين موضع اهتمام الحركة الوطنية المصرية، وكانت مصر طرفا أساسيا فى الأحداث التى سبقت حرب عام 1948، ثم فى الحرب ذاتها التى كان الجيش المصرى فى مقدمتها. كما ساعدت فى إنشاء حركة فتح، ثم منظمة التحرير الفلسطينية (مشروع القائد الفلسطينى أحمد الشقيرى الذى تقدم به إلى قمة الإسكندرية فى سبتمبر 1964، حيث تمت الموافقة على قيام المنظمة واعتمادها كممثل للشعب الفلسطينى بدعم قوى من مصر). لقد جندت مصر إمكانياتها وقدراتها الكاملة فى كل مرحلة من مراحل الصراع من أجل فلسطين، ففى مرحلة الصدام العسكرى 1948-1974 كانت مصر المقاتل الأول وسخرت مواردها، وفقدت عشرات الآلاف من خيرة شبابها فى خمس حروب: حرب 1948، وعدوان 1967 وحرب الاستنزاف، ثم حرب التحرير فى أكتوبر 1973. ثم اقتحمت مصر بعد انتصار أكتوبر غمار التسوية السلمية على أساس قرارات الأممالمتحدة، ولم تكن المعركة السلمية أقل ضراوة، وفى كل مراحلها كانت التسوية الشاملة بحثًا فى الحل الشامل. لقد فتحت مرحلة جديدة فى تاريخ غزة الذى أصبح يدار من حاكم إدارى مصرى التى أسهمت فى صنع جزء من التاريخ السياسى للشعب الفلسطينى، والحفاظ على هويته الفلسطينية، ناقشت دراسة بعنوان «الحركة السياسية فى قطاع غزة 1948-1964)، إعداد د. جهاد شعبان البطش، ود. سامى يوسف أحمد بجامعة القدس المفتوحة، أوضحت الدراسة وضع غزة منذ انتهاء معارك عام 1948، ووضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، وكان ذلك إيذاناً ببدء مرحلة جديدة فى الحياة السياسية للشعب الفلسطينى. فقد أتت الهزيمة 1948 لتزعزع الأساس الذى كانت تقوم عليه الحياة فى لواء غزة سياسياً واقتصاديا، فقد سقطت القيادة السياسية التقليدية مع هزيمة 1948، وتعرضت لحملة رسمية عربية مغرضة تحاول أن تلقى مسؤولية الفشل فى الحرب عليها، حيث دأبت أجهزة الإعلام على تعداد سلبيات تلك القيادة وعيوبها، إضافة إلى انهيار الأوضاع الاقتصادية، إلى مزيد من الصراع السياسى بين القيادات التقليدية، وتداخل الصراعات العائلية والمحلية بالصراعات السياسية، فلم يعد للفلسطينيين أى كيان سياسى قانونى. ومع بدء تنفيذ الهدنة الدائمة الموقعة بين مصر وإسرائيل باشرت الدولة المصرية اختصاصاتها بإدارة غزة فى 26 مايو بقرار صدر عن وزير الدفاع المصرى، بتعيين اللواء سالم باشا، مدير عام سلاح الحدود الملكى والحاكم العام للصحراء الشرقية حاكماً إداريا للمناطق التى خضعت لرقابة القوات المصرية فى فلسطين، وتعيين القائمقام العقيد الصواف نائبا للحاكم العام على تلك الأراضى ومقره غزة، وبذلك فتحت مرحلة جديدة فى تاريخ غزة الذى أصبح يدار من حاكم إدارى مصرى. وأخضع القطاع رسمياً لإدارة الحكومة المصرية بعد توقيع الهدنة المصرية الإسرائيلية فى 24 فبراير 1949 فى رودس، وقد تولت الحكومة المصرية بعد ذلك، وبتكليف من الجامعة العربية، إدارة المناطق الفلسطينية الخاضعة لرقابة القوات المصرية، التى أصبحت تعرف فيما بعد بقطاع غزة، وظهر مصطلح قطاع غزة لأول مرة فى الوثيقة الدستورية التى أصدرها ديوان الرئاسة المصرى فى 11 مايو 1955، الذى أطلق عليه اسم القانون الأساسى للمنطقة الواقعة تحت رقابة القوات المصرية بفلسطين. وتأتى أهم الشهادات، وهى شهادة مصرى، أتاح له القدر أن يرى عن قرب بعض الوقائع المهمة وأن يشارك فى صنع بعضها «محمد عصام الدين حسونة»، وزير العدل السابق فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر، شارك فى تحقيق قضية اغتيال النقراشى، ومحاولة اغتيال النحاس 1951، كان رئيس المحكمة العليا بغزة، كان فى الأسر الإسرائيلى 1956، وعاد 1957، تولى حقيبة العدل فى الفترة من 9 يونيو 1967 إلى 11 يونيو 1967 فى وزارة محمد صدقى سليمان، كما أشرف على تحقيق حادث انتحار المشير عامر. بالتفاصيل الدقيقة ذكر «حسونة» فى الفصل الثانى «فى قطاع غزة» من كتابه «23 يوليو.. وعبد الناصر: شهادتى»، أصدر وزير العدل أحمد حسنى فى 1953 بندب عصام الدين حسونة رئيسا للمحكمة العليا فى بغزة، فضلا عن تنظيم القضاء بالقطاع، فيقول «حسونة» موضحاً: كل ما أعلمه عن غزة وقطاعها، أنها الأرض التى تمكنت مصر فى حرب 1948 من أن تستنقذها من بين مخالب القوات الإسرائيلية وأن تحتفظ بها وديعة بين يديها إلى أن يسترد أصحابها الشرعيون حقهم فى إقامة دولتهم المستقلة. رحب به رزق حلزون «أبو فرح» أقدم القضاة الفلسطينيين العالمين بالقطاع، وعبد الرحيم الشريف قاضى المحكمة المركزية والمحامون العاملون بالقطاع وخليط من الفلسطينيين والمصريين ممن يعملون أمام محاكم سلاح الحدود. وكان هناك قضاة صلح من محاكم خان يونس ورفح ودير البلح. بدأ حسونة وزميله مأمون الهضيبى دراسة القوانين المنظمة للقضاء فى القطاع، وكان علينا مراجعة التشريعات متباينة الجذور وأن نقترح على الإدارة النظام القضائى بعد المراجعة والدراسة، أكثر ملاءمة لظروف القطاع. واستمرت المحكمة العليا ترسى قواعد جديدة لتحقيق العدالة. وجاء عدوان 1956 ولم تكن القوات المصرية أو الفلسطينية معدة لمواجهة هذا الهجوم، وخلال ساعات انتشرت القوات الإسرائيلية فى أرجاء المدينة وأعلنت سقوط المدينة وصدور الأمر بحظر التجول. واقتحمت الجنود الإسرائيلية منزل حسونة ووقع فى أسر إسرائيل لمدة أكثر من ثلاثة شهور. خرجت وزملائى من تجربة حرب 1956، وتعلمنا من محنة وقوعناً فى الأسر بدرس هام، وهو لقد آن الأوان للقيادة المصرية آن تنزع إدارة القطاع من سلاح الحدود، لقد تعمق إدراكى بأن على مصر أن تصوغ من جديد علاقة دستورية مع القطاع من شأنها أن تحفظ له هويته الفلسطينية، وكيانه المستقل عن مصر. وعقب العودة تحدثت مع الرئيس عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر أنه قد آن الأوان لوضع دستور جديد يحفظ للقطاع كيانه، ويبدأ أولى خطواته فى سبيل تقرير المصير.. بأن تقرر مصر لقطاع غزة وضعا دستوريا خاصا يتفق مع وضعه الدولى ويكون نواة للكيان الدولى الفلسطينى فى المستقبل لتفسد خطة إسرائيل. وأثرت ضرورة ألا يرسل إلى القطاع إلا خير الضباط والموظفين وأن تتولى الحكومة تأهيلهم سياسيا قبل إيفادهم إلى القطاع. وقد بدأت تحقيق الفكرة بلقاء القائد العام للقوات المسلحة وطرح الفكرة عليه، ثم ذهبت إلى عبد الرزاق السنهورى باشا، رئيس مجلس الدولة، لإقرار المشروع، وزرت أحمد حسنى، ووزير الإرشاد القومى فتحى رضوان، وتمكنت من كسب صفهم إلى الفكرة. وفى 25 فبراير 1958 نشر القانون الأساسى لقطاع غزة، وقد ضم القانون 47 مادة. وقد أنشأ القانون للقطاع مجلسا تنفيذيا مؤلفا من 10 أعضاء يرأسمهم الحاكم الإدارى العام للقطاع هم مديرو الإدارات المصريون والفلسطينيون، كما أنشأ القانون الأساسى مجلسا تشريعيا للقطاع يرأسه الحاكم الإدارى العام، ويضم فى عضويته أعضاء المجلس التنفيذى ورئيس بلدية غزة وثلاثة من أعضائها ورئيس بلدية خان يونس وعضوين من أعضائها وعضوا لكل من المجالس القروية برفح، ودير البلح وجبالية، وأربعة أعضاء يختارهم المجلس من اللاجئين وسبعة أعضاء من سكان القطاع الأصليين يمثلون مهن الطب والتعليم والمحاماة والتجارة والزراعة. وقد شكل أول مجلس تنفيذى برئاسة اللواء حسن عبد اللطيف، الحاكم الإدارى العام. وقد انعقد المجلس التشريعى- لأول مرة- يوم الاحتفال بالذكرة السنوية الأولى لعودة الإدارة المصرية إلى القطاع.. أوفد الرئيس جمال عبد الناصر السيد أنور السادات لحضور الاحتفال بافتتاح المجلس.. كما حضر الاحتفال أيضا السيد عبد الخالق حسونة، الأمين العام للجامعة العربية، والسيد حسين الشافعى، وزير الشؤون الاجتماعية للإقليم المصرى.. كما توافد على القطاع العديد من الصحفيين المصريين والأجانب لتسجيل هذا الحدث الهام. وسارت المظاهرات فى القطاع تعبر عن ترحيبها بهذه الخطوة الجديدة وحمل المتظاهرون صور الرئيس.. والمواطن العربى الأول شكرى القوتلى ولافتات تمثل شعارات الوحدة العربية ووحدة فلسطين.